الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

قصاصات


 لا يعرف الطفل في صغره كما يعرف أمه، فلا يحيا بأحضان غيرها مدة حمله، ولا يأمن لذراعي تحملانه كما يامن لذراعيها، ويأنس بها وبقربها، ويحفظ عن ظهر القلب ودون أن تكون له إرادة نبرة صوتها ورائحتها، وهي له عالمه الذي يحتد بحدودها، ولا يلتمس الأمان في غير حضورها، ولا يقارن بينها وبين أنثى غيرها إذ لا يدرك في الحياة غيرها، وكل أنثى عداها امرأة وهي وحدها أم، والأم في فكره البسيط امرأة مميزة لا لسبب يعيه ويدركه غير أنها أمه، ومن الفطرة ورحمة الله بالطفل أنه لا يحب مذاق غير مذاق طعامها الذي تعده وإن كانت لا تحسن من الطهي شيئًا، فمادام من صنع أمه فهو أجمل الأطعمة وأكثرها لذة، ويدها هي أملس ما مس خديه وإن كانت طبيعتها شوهاء، وابتسامتها لا يضاهيها في النور والجمال وجه غير وجهها وإن كانت من القبح ما كانت، تلك نعمة إلهية أنعمها الله على الطفل ورحمة سماوية شمل بها الأم، فاقتضت الفطرة السليمة ألا يعشق الطفل من بني البشر كما يعشق أمه، وألا يرحم الطفل منهم بأوفر من رحمة أمه عليه.



كم أنا مشتاق لحروف غير حروفي، وللغة هي للقلب أدنى وأقرب، كم أنا مشتاق لرسالة سحرية لا أخطها بقلمي، ولا يحكمها فكري، ولا يتجلى فيها قلبي بإرادة عقلي، رسالة سحرية أوحي بها إليك فتبلغك بلا ورق وحبر، بلا مرسال ومظروف، بلا ختم وعنوان، وبلا طابع بريد، رسالة حسبها طابع حبي وحنيني واشتياقي، وعنوانها إرادتك ومناشدتك إياها في الأثير، رسالة ليس فيها شيء من لغة أو رسم، رسالة فارغة فراغ عرفهم، وفائضة فيض قلوبنا، أهٍ، قد أرسلت إليك برسالتي دون أن أدري فهل أنت قد وفقت لاستلامها؟!



نحيا بزمن يبكي عليه الكتاب أسفًا ، ويئن فيه الفكر من وحشة الوحدة، ويوشك مداد القلم أن يجف من هجران العقول والعواطف له, أهٍ كم آسى على زمن فات بمن فيه وتركنا لسنواتنا الجافة بلا أنس, كأن العام قبلنا كان قصولاً أربعة وأصبح لنا اليوم فصلاً واحدًا: صيفًا محرقًا أو شتاء قارسًا, إن حلمت فلا أحلم بغير ربيع الفكر في عقولنا وربيع العاطفة في قلوبنا وربيع الانس في أرواحنا.




أنا غريب عن هذا العالم بفكري المهاجر الدائم الترحال الذي يبحث له عن وليف، أنا غريب عن هذا العالم بفؤادي الباكي من وحشة قلوب الآخرين، أنا غريب عن هذا العالم بروحي التي لا تمل السفر بين الأمكنة والسنين تنشد الشبيه، أنا غريب عن هذا العالم بكل ما في من المعاني وما فيه من زخرف المادة الجوفاء. 




وإن الطرق كلها تؤدي إليك، فأنت شمس طالعة على نفسي مالها من مغيب، وعلى قدر الشوق المعتمل إليك فإن لقياك هو أشد مخاوفي، فتريث وغض البصر، وارحم أن تقذف عينيك لتلقى عيني، فتقتل وهمًا لطالما أنشأته، تريث فإني من لقياك خائفة، فإن تواجهت الأعين بلا حجب أو ستر فأنا لاشك مصرحة: إني بالحب متيمة، وببحر الشوق إليك غارقة.
 

اتبعني على Facebook