الخميس، 19 ديسمبر 2013

حصاد الأفكار

حصاد الأفكار


 
في ختام هذا العام لا أُسجل سوى أفكار ماتت وأخرى قد وُلِدتْ بالفكر بعد أن تمخض بها الألم والتجربة.

من بين أفكاري تلك: أن حقيقة السعي للتغيير صعبةٌ جدًا، وخدعة منطقة الراحة قاتلة، ونحن لا نُقدم على التغيير حتى تشتعل داخلنا الرغبة، والرغبة تحتاج لأسباب وإجابات قوية عن هذا السؤال: ماذا سيحدث إن تغير كذا في حياتي؟ والتغير في الوضع الصحي هو الأخطر لأن لا شيء أصعب على النفس من تمزيق حالة التكيف ولو انطوت على الألم والخروج منها للمجهول: ربما ألم أكبر وربما راحة ، ونحن لا نحصل على إجابة قوية من أطبائنا بشأن هذا إلا نادرًا، نحن نعيش بنقصٍ شديدٍ في فرع من أهم فروع المعرفة الإنسانية ألا وهو: معرفة الذات والتعامل معها وتطويرها، ربما وُجِدتْ مؤلفات كثيرة وبعضها رائع وقيم بالفعل لكن قل من يوليها اهتمامًا ومن يؤمن بها للأسف.

ظننت واعتقدت لسنواتٍ أن المهنة لها أخلاق تطبع بها أغلبية المشتغلين بها. وكنت أقدس مهنة الطب حتى أكاد أرى أن وصفها بالمهنة وصم لا وصف، واعتقدت أن الأشقاء من هذا الدم الطاهر لهم من سمات الشخصية ما يجعلهم أهلًا للحب والتقدير، ولكن الحقيقة أن ما اعتقدته فيهم من سمات بات أشبه بالخيال في عصر جعل المادة أعلى شأنًا من العلم والأخلاق والشرف الإنساني، وإن بدت تلك السمات عليهم فتأتي في آخر سن الشباب لا أوسطه.

رأيت الصداقة حقيقة يمكن بلوغها، وأن الزمن لم يزل كريمًا فيهب للقلب والفكر والنفس صديقًا يؤنسها، ولكن الأيام خير دليل على أن هبة الزمن أثمن من أن تُمنَحَ لأكثرنا، وأن تحت السماء قلوب وعقول تئن من الوحدة، وعلى الأرض أناس يلوثون شرف الصداقة بأخلاقهم الدنيئة ومصالحهم الطاغية، ونفوسهم الصغيرة، وأطماعهم التي لا حدود لها.

السلبية، هي في البشر طاقة لا أسلوب تفاعل، فهم لا يتعاملون بسلبية مع المواقف والأشخاص؛ بل هم يملكون قدرًا كبيرًا من الطاقة السلبية التي يعملون بها ويديرون بها المواقف ويبثونها لغيرهم، هي طاقة قاتلة وهم نشطون في إنتاجها وبثها في كل مكان، إن الأغلبية من البشر لديهم مثل تلك الطاقة، ويبدو أن إنتاجها سهلٌ ولا يكلفهم الكثير من الجهد، الركون إلى الراحة، الاستسلام، تحطيم الأهداف الكبيرة والآمال وإحباط ذوي الهمم والطاقات هي من أشكال تلك الطاقة السلبية أو لنقل عنها طاقة السعي للموت البارد.

المثاليون في كل زمن قليلون، وهم بالرغم مما يقدمونه للمجتمع من فوائد أقل ما يقال عنها أنها قناديل مضيئة في مجتمع حالك الظلام -  هم بالرغم من ذلك تُعساء، أشقياء، محزونون، ووجودهم ضرورة كوجود غيرهم من السواد الأعظم، كلاهما مهم كي تنتظم الحياة.

خلط الأفكار والمفاهيم والسطحية كلها أمراض منتشرة وسريعة العدوى والانتشار بين البشر، والأغلبية أميل للإصابة بها، فيخلطون الجد بالهزل، والاتزان بالمبالغة والتشد، والانضباط بالجمود، والحب بالغباء والبساطة بالسذاجة، وقل فيما هم مازجون كثير وكثير.

للعلاقات والحب مستويات عديدة ومتفاوتة، ولكل مستوًى قدر من الالتزام وحقوق يجب الوفاء بها، ولكل مستوًى أيضًا قدر من الحاجات التي لا تُشبع إلا من خلال المحبوب الموضوع فيه، فإن وضعت الشخص في غير مستواه المناسب لم تجنِ غير الألم والحرمان وضياع الوقت، هناك دومًا نقطة يمكنك الرجوع إليها والأفضل أن ترجع في الوقت المناسب، فتقف وتعيد تقييم المواقف، وترتب أوراقك من جديد، وتضع الشخص المناسب في المستوى المناسب من العلاقات بالنسبة لك.

"أنت قائد سفينتك" "عالمك الداخلي هو الأهم "سيطر على حياتك" معانٍ لم أؤمن بها بعمق قبل الآن، ولكني اختبرتها فوجدتها دواء للكثير من عِلَّاتِنا وأوجاعنا، فقط فكِّر أنك تستطيع وسوف تستطيع بالفعل.

وأخيرًا .. كن جديد الفكر متطورًا مرنًا، إياكَ وجمود الفكرِ فأنتَ إذن كمن يمسكُ سكينًا يجرح بها نفسه جاهلًا، فيتألم ويصر على أن يعيد الألم وألا يترك السكين جانبًا.

نسمة السيد ممدوح
1 ديسمبر 2013 

الأحد، 15 ديسمبر 2013

صادق نفسك تجد سعاتك



صادق نفسك تجد سعادتك



كثيرًا ما نردد تلك العبارات: "تحدث إلى نفسك" "ناقش نفسك" "ابحث عما بداخلك" وأمثالها، ولكن هل التحدث إلى النفس مهارة يمكن اكتسابها؟

إذا كان التحدث إلى النفس للوصول لنتائج إيجابية مهارة – وهذا ما أراه – فإن تلك المهارة بحاجة إلى معرفة ومن ثم اقتناع وممارسة لاتقانها.

ليس من السهل أن تتحدث إلى نفسك، الكثيرون يخافون هذا الحديث بالرغم من سريته، السبب وراء هذا الخوف هو حاجة هذا الحديث للصراحة التامة والوضوح والقوة في النقد، عندما نتحدث إلى أنفسنا فنحن كمن يقف أمام مرآة كاشفة وجارحة أيضًا، من الضروري ان تعكس تلك المرآة ذواتنا بوضوح، تعكس أجمل ما فيها وأسوأ ما فيها، تبرز نقاط قوتنا وضعفنا، لا مجال هنا للمجاملة، إن المجاملة تعني الاستسلام للخوف من المواجهة، وهذا الخوف يعني الضعف والعجز.

هذا يعني أن أهم ما يجب أن تتعلمه هو الشجاعة، والشجاعة كما تحدث عنها براين تريسي في كتابه "الأهداف" ـ ليست عدم الخوف؛ وإنما هي مقاومة الخوف والسيطرة عليه، لأن الطبيعة البشرية غالبة فينا جميعًا، ومصارحتها هو الحل الأمثل دومًا، نحن نخاف وتلك حقيقة، وأسباب مخاوفنا كثيرة جدًا ومتنوعة، ولكن الشجاعة هي أن نقاوم هذا الخوف وألا نركن إليه، الخوف يقود للاستسلام والضعف والخضوع، ويمنع من المجازفة والتجربة والتطور والتقدم للأمام.

ومقاومة الخوف تستلزم قدرًا من المعرفة: معرفة أسباب الخوف، معرفة طرق التفكير في الخوف، معرفة استراتيجيات التعامل مع العقل اللا واعي خاصة للتغلب على الخوف، وأنت لن تستطيع ابدًا أن تتم حوارًا صادقًا وبناءُ مع نفسك مادمت خائفًا تفتقر إلى الشجاعة وتفتقر للمعرفة أيضًا.

إن ما تتحدث عنه كتب علم النفس والتنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية ليس خيالًا أبدًا، كل ما في الأمر أننا لم نجرب تطبيق ما يرد فيها، ولو جربناه لوجدناه صالحًا للعمل، دائمًا ما تعتمد النصائح في هذا الجانب على محاورة الذات بصراحة، ونقدها نقدًا بناءً، وتفنيد أسباب مخاوفها وتبريراتها، ومواجهتها بالحقيقة.

إن المواجهة بالحقيقة صعبة وقاسية وتلزمها الشجاعة، كما يلزمها التجرد من الخجل مؤقتًا، ليس من الصواب أن تناقش ذاتك في تصرف ما وتستبعد خيارًا كالأنانية بداعي الخجل من أن توصم بتلك الصفة، وإنما الشجاعة أن تطرح هذا الخيار كباقي الخيارات، ثم تناقشها واحدًا واحدًا.

إن معرفتك لذاتك تجعل من السهل عليك علاج مشكلاتها أو حتى طلب المساعدة والعون من الآخرين، في بعض الحالات نعرف علَّاتنا ولا نجد من يساعدنا، ولكن هذا أخف وطأة ممن يجهل أسباب المه في الحياة.

إن أولى شخص بصداقتك الحقيقة هو أنت، صادق ذاتك، كن شجاعًا وصادقًا ومخلصًا معها، هذا لا يعني ان تكون أنانيًا ، فرق كبير بين هذا وذاك.


نسمة السيد ممدوح

15 ديسمبر 2013


الأحد، 24 نوفمبر 2013

التربية.. فكر يتجدد

التربية

فكر يتجدد


سألتني صديقة ذات مرة: هل ستربين أبناءك على النهج نفسه الذي ربَّاك عليه والداكِ؟
فأجبتُها بكل صراحة: لا، أنا أؤمن بديناميكية التربية، وضرورة تطوير أساليب التربية من جيل لجيل؛ وهذا لا ينفي فضل الأبوين وجهدهما أبدًا، وإنما هو إثراء وتقدم للأمام، وقد كتبت مرة مقالاً بعنوان: "ديناميكية التربية" يشرح الفكرة مفصَّلة، وناقشت موضوع التربية في مقال آخر بعنوان: "ابنك مشروع لا ينتهي"، ولا تزال موضوعات التربية ذات أهمية بالنسبة لي، ولا أحب أن يُنْظر إليها نظرة جمود، وإن كان حديث هذه المرة سَيَلقى تحفظًا ربما شديدًا من الكبار؛ فأنا أقدم لهم تَفَهُّمي مقدمًا لمواقفهم، فليس من السهل أن تُغَيِّر فكرًا تبنيْتَهُ لسنوات طويلة، ولكني أقول بأن كل كلمة ستقرؤها هنا ليست نكرانًا ولا اعتراضًا، وإنما هي أفكار وليدة الملاحظة والمعايشة، ومُسْتَقْبِلو كلماتي هم في الأغلب من الأمهات والآباء من الشباب، فلنبدأ.

لماذا تزخر الكتب والمواقع بموضوعات التربية الخاصة بالطفل والمراهق فقط؟ أيمكن أن نعتبر هذا قصورًا واضحًا في فهم التربية ودور الوالدين؟ أم هي رؤية المجتمع لتلك المراحل العمرية، وكأنها الأهم، وما يليها ليس بحاجة لدراسة أو قراءة للقيام به على نحو جيد؟ في الواقع نجد أن الأسر تزخر بالمشكلات وتوتُّر العلاقات بين الآباء والأبناء في فترة الدراسة الجامعية وما بعدها، ثم تتفاقم مع زواج الأبناء ودخول أفراد جدد للأسرة، هذا يعني أن كَمَّ المعلومات المقدمة غير كافٍ، وأن تفسير القصور في النظرة هو في الأغلب التفسير الصحيح.

إن رعاية الأم والأب لطفل صغير لا تحتاج إلى حث أو لفت انتباه؛ وإنما تحتاج إلى معلومات وبرامج عملية تفيد في تلقين الطفل السلوكيات المناسبة، وأساليب للتقويم وحل المشكلات، ولا يحتاج الأب أن تُقَدَّم له نصيحة على نحو: "عليك أن توفر مالاً يكفي لغذاء طفلك أو علاجه"، ولا تحتاج الأم لنصيحة مشابهة لـ: "عليكِ بالصبر؛ فهو طفل رضيع لا حول له ولا قوة"؛ فكل تلك أمور فطرية لا حاجة لتَكرارها، ولكن تبدو هذه الملاحظات ضرورية في مراحل ومستويات أعلى.

إن الطفل الصغير تكون حاجاته واضحةً أمام الوالدين، فهو بحاجة للغذاء، والنظافة، والأمان، والحنان، والتعليم، والمتابعة، لا توجد مشكلة حقيقية في فهم حاجات الطفل في سنواته الأولى، حتى عندما يلتحق بالمدرسة فليست هناك ضرورة لأَن توجِّه الوالدين لمتابعة ابنهما في المدرسة، وتوفير ما يلزم لتلقيه التعليم الجيد، ربما المشكة تبرز عندما يصبح أكثر نضجًا، وعندما يبدأ في الاستقلال بنفسه، وتلبية حاجاته معتمدًا على ذاته.

فعندما يبلغ ابنك العشرين من عمره، يصبح منفصلاً جدًّا عنك، وتشكو الأُسر من التفكك عند بلوغ الأبناء تلك السن، هم لا يدركون سبب التفكك الطبيعي؛ لأنهم يظلون يعاملون أبناءهم كما كانوا يعاملونهم وهم صغار، والواقع أن نضوج الأبناء يعني استقلالاً حقيقيًّا عن الوالدين لا بد منه لتستمر الحياة، يستطيع الابن أن يحضر طعامه بمفرده، وأن يعتني بنفسه وبدراسته، وفي السنوات التالية سيلتحق بعمل ما، ويصبح قادرًا على أن يعول نفسه، ولكن تظل هناك حاجة واحدة للأبناء لا يملكها غير الوالدين، وهي الحاجة النفسية.

من الأفضل أن تهتم بتلك الحاجة من الطفولة، وأن تكون قادرًا على تلبيتها ما دمت حيًّا، فهي الضامن الوحيد لبقاء قلبك وقلب ابنك متلاصقين للأبد، وهذا خيار لك، أو دعْنا نقول: تلك هي أبوتك في المراحل المتقدمة، وتلك هي أمومتكِ في السنوات المتقدمة، وتلك هي الضامن لنيل الحب الحقيقي من الأبناء لا مجرد البر.

إن قضية بر الوالدين في الحقيقة معقدة وشائكة نوعًا ما، وفي اعتقادي:
البر من الواجب الذي يدفع إليه العقل ويضمن تحقيقه، أما الحب، فهو يختلف تمامًا، ونحن نسمع عن زوجات ترعين أزواجهن مع ضياع الحب، وتُخْلِصْن لهم من منطلق الواجب، ونرى أزواجًا ينفقون على زوجات ويحترمونهن مع غياب الحب؛ لأجل الواجب، ونرى أبناء يَبَرُّون آباءهم وإن كانوا قساة؛ فقط لأجل الواجب، ولو لم يكن البر واجبًا، لما حث عليه الله في كتابه العزيز، ولَمَا رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأنه؛ فهو واجب وإن لم يرافقه حب، وعلى الجهة الأخرى لم نجد في القرآن ما يحث الأب والأم على حب الابن، وإنما رأينا تحذيراتٍ ونواهيَ عن بعض العادات التي كانت سائدة قبل الإسلام، كوأد البنات، وقتل الأبناء خيفة الفقر، أما الآيات التي ذكرت النفقة على الأبناء ورعايتهم أو إرضاعهم، فجاءت لتنظيم أمور أخرى ليست في وضعها الطبيعي؛ كحالات الطلاق، وهذا يعني أنها ثابتة ومستقرة فيما دونها، وليست بحاجة لشرح وتفصيل.

ولكن بالنسبة لك كأب شاب وأنتِ كأم شابة:
هل يكفيكما البر؟ أم أنكما حقًّا بحاجة للحب؟ لا أتصور أحدًا يختار الإجابة الأولى إن كان يملك اختيار الثانية، ولنيل الثانية فهناك ثمن لا بد أن يسدد مسبقًا، وهناك وعي لا بد أن يكون موجودًا بداخلنا، إن الحب الفطري داخل الأب والأم هو حب غير مشروط، وهذا ما يجب أن نعيه بدقة، أنت تنجب طفلاً جديدًا للوجود، فيُشعِرك بذاتك وأهميتك، ويجعل لحياتك قيمة رغم المعاناة، وأنت تمنحه بحب، وعليك فقط أن تمنح وتأمل في نيل الحسن، لكن تذكر أن ما تمنحه في السنوات الصغيرة لا يدركه الطفل بشكل كافٍ؛ لأنه لا يزال صغيرًا، هو يحتاج منك أن تروي له ما فعلت، اروِ فقط، ولا تحاول تذكيره بأن لك فضلاً عليه، اترك له مهمة التقييم، وسيصل للنتيجة حتمًا، وعندما يَكبَر قدِّمْ له الحب صافيًا، قدِّمْ فقط ما تتأكد أنك قادر على تقديمه، والالتزام به طوال حياتك، اجعله لا يتلذذ بقيمة الحياة إلا بوجودك، عندها لن يقوم ببرك لأنه واجب عليه؛ وإنما سيعطيك ما هو أكثر من البر؛ إنه الحب الصادق.

إننا ننجب أطفالنا دون أن يختاروا هم ذلك، ونحن ننجبهم؛ لنشعر بالمتعة بوجودهم، ولو لم يكن الطفل بحياة الأبوين متعة ونعمة، لَمَا تمزق قلب من حُرم من الإنجاب، إننا ننجبهم لأنفسنا أولاً، ثم نبدأ بالعطاء، ورغم الألم والتعب والمعاناة، فإننا نسعد بهم، وهم يقدمون لنا أسباب وجودنا وقوتنا، ويمنحوننا من لمسات الحب البريء ما يُحَوِّل جفاف حياتنا وصحراءها إلى جنة جميلة، إننا ننجب أطفالنا، ولا نجبرهم على أن يضعوا بصمة أصابعهم الغارقة بالبحر على شيك "على بياض" لنطالبهم في شبابهم بكل ما نريد باعتباره دَينًا واجبَ السداد، إن اللجوء إلى تلك المبررات وقت الضعف والحاجة وقلة الحيلة هو أسوأ ما يمكن أن يقترفه الوالدان، حتى عندما تقع المشكلات، عندما تشعر أنك قد ارتكبت خطأ أدى لجرح شعور ابنك، فلا تتمسك بتلك المبررات، ولا تخدع نفسك بأنك أب، أو أنكِ أم، لكما صلاحية مطلقة، هذا في الحقيقة يجرح الأبوة ويمزق الأمومة، عندما يقل العطاء النفسي والعاطفي الممنوح من الأب أو الأم عن المعتاد دون سبب منطقي يدركه الابن، فإن شكواه من الفقدان أو الحرمان صادقة في تلك اللحظة، حتى وإن كان لك مبرراتك كأب، وأنت كأم، من الإجهاد النفسي؛ فالحقيقة أن تلك ليست غلطة الابن؛ إنه سوء تدبير لموارد العطاء لديكم من الأساس، وبدلاً من توجيه الصدمة للأبناء، أو لومهم على شعورهم، تداركوا الأزمة بالمزيد من الرعاية النفسية والحنان.

ربما لم تفكر يومًا أنَّ طلب المساعدة من ابنك هو نوع من التدليل لك، كثير من الآباء والأمهات يضعون مرارة الصبار في هذا العسل الصافي، إن كنت تثق بأنك قدمت لابنك بحب، فلمَ تَخَاف أن تطلب منه بحب؟ عندما تحتاج إليه قل له بشكل صريح: "أريدك يا بني"، عندما تشعر بحاجة للحب قل: "أحبك"، وستسمع ما هو أجمل، إن العطاء يجلب العطاء، والحب يجلب الحب.

وفي ختام تلك الكلمات لا يسعني إلا القول:
بأن البر واجب، ولكن البر الممزوج بالحب أجمل وأصدق وأبقى، التربية مهمة، والتربية النفسية أهم، تلبية الاحتياجات البيلوجية للطفل ضرورة، ولكن خَلْق الحاجة النفسية، وإشباعها في كل مراحل العمر، هو ضرورة أشد من ضرورة البقاء على قيد الحياة.

النشر الأول على شبكة الألوكة:

الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

المشاركة الفعالة والتعبير عن الرأي


المشاركة الفعالة والتعبير عن الرأي

المشاركة الفعالة والتعبير عن الرأي 

مع انتشار التكنولوجيا، وزيادة وسائل وطرق الاتصال، وسهولتها، وانخفاض أسعارها، أصبح من غير المبرَّر أن يتوقف الأشخاص عن تبادل الآراء، ووجهات النظر، وأن يكتفوا بالاستماع والصمت، فقد باتت الإمكانات المادية والتقنية متاحة، وانحصرت المشكلة في توفر الإمكانات الشخصية، أو ما يمكن أن نطلق عليه "مقوِّمَات الشخصية القادرة على النقاش".

اليوم أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي - وأشهرها Facebook - من أهم العوالم الافتراضية التي يلتقي فيها الأفراد من أماكن متباعدة، وجنسيات وأعمار مختلفة، وقد كتبتُ عدة مرات حول تلك الشبكات، وناقشْتُ ثقافتها، وأدواتها، وضرورة الربط بينها، وبين الحياة الواقعية؛ بحيث يثمر التواصل عبرها، ولا يتوقف على الترفيه والتسلية، وإمضاء الأوقات بلا فائدة؛ ولأن تلك الشبكات توفر لكل شخص ملفًّا خاصًّا به، أو حائطًا Wall، أو خطًّا زمنيًّا يسجِّل نشاطاته Timeline، وكذلك توفر له إمكانية تدوين أفكاره على هذا الملف، أو مشاركة محتوًى يخص غيره، مع هذه الإمكانات أصبح من الممكن تصنيف مستخدمي هذه الشبكات إلى فئتين:
الأولى: فئة ذات فكر ورأي، ولديها ما يكفي من مقومات الشخصية؛ لطرح آرائها وأفكارها؛ ولهذا تجد ملفات هؤلاء غنية بالمشاركات التي تعبر عنهم بصدق، حتى إنك تستطيع أن تتعرف على ملامح شخصية الواحد منهم، وكأنك التقيت به لمرات، أو عدة مرات.

الثانية: فئة لا تهتم كثيرًا بالتعبير عن آرائها، وترى صفحات هؤلاء وملفاتهم الشخصية ممتلئةً بالمشاركات المتنوعة من هنا وهناك، بعضها يخص أصدقاءهم، وبعضها يخص مجموعات أو صفحات هم منتسبون إليها، وعندما تزور صفحاتهم لا تشعر بهم إلا فيما ندر، ربما يلزمك أن تكون ماهرًا بتحليل خياراتهم؛ حتى تعرف شيئًا عنهم، وصفحاتهم أشبه ما تكون بالمجلات المتنوعة.

وفي محاولتي لاكتشاف أسباب صمت الفئة الثانية، وجدت أن من بين الأسباب المقترحة خوفَ هؤلاء من التصريح بآرائهم:
ربما يخافون الرفض الاجتماعي، أو يخافون عدم نضوج آرائهم بما يكفي لِتُنْشَرَ، على كلٍّ، أن تنتظر الوقت المناسب لطرح آرائك ليس تصرُّفًا حكيمًا؛ لأن ذلك الوقت المناسب لن يتأتى أبدًا، وكتمان آرائك لفترة طويلة يُحَوِّلها لآراء جامدة عسيرة الفهم والهضم، وسيكون من الصعب عليك تعديلها فيما بعد، أو حتى التصريح بها، فكلما تجنبت التجربة خوفًا من نتائجها، زادك الخوفُ خوفًا جديدًا.

ومن بين الأسباب:
ضعف المستوى اللغوي للبعض:
وقد صرح لي البعض بهذا مرارًا، فَهُم يخشون الكتابة؛ لضعف مستواهم اللغوي، ومع ذلك ينسى هؤلاء أن اللغة ممارسة في المقام الأول، ما لم تُمَارِسْ لغتك، فلن تتطور أبدًا.

والسبب الثالث:
هو عدم الاهتمام، وفقدان الشعور باحترام الذات وتقديرها؛ فهؤلاء لا يُقَدِّرُون ذواتِهِم، ولا يحرصون على إبراز وجودهم في العالم الافتراضي، هم لا يزالون يشعرون بضرورة حجب شخصياتهم عن الآخرين، متناسين أن من يقرأ تدويناتهم أشخاص محددون من قِبَلِهِم في الأصل، وهم من بين أقاربهم، وزملائهم، وأصدقائهم، فما الذي يمنع من تداول الآراء معهم؟!

يتوقع الكثيرون أن آراءهم غير ذات أهمية، ولا يدركون أنه حتى في الدراسات والبحوث يُعَدُّ امتناع بعض أفراد العيِّنَة نتيجةً بحد ذاتها، وتنال هذه النسبة السلبية من أفراد العينة قسطًا من الدراسة، وفي دراسة شخصية مصغَّرة قمت بها حول فكرة الطموح، وعلاقتها بتحقيق الأهداف، والتصور الشخصي للنجاح، أرسلت للكثير من أقاربي وأصدقائي ومعارفي حتى على نحوٍ غير مباشر، أرسلت إليهم العديد من التساؤلات حول الموضوع، وفي حين وصلتني إجابات ممتازة من أشخاص شعروا أن كونهم ضمن عيِّنة الدراسة، فهذا تقدير شخصي لهم، أولئك يتمتعون بدرجة عالية من تقدير الذات، وشعورهم الذاتي بأنفسهم رائع، ولديهم قدر كبير من الثقة، في المقابل تجاهَلَ البعض الرد على التساؤلات، وكان الانشغال سببًا للبعض الآخر، وإن كان التجاهل يرجع لسبب فعلي مع كون الشخص مُقَدِّرًا لفكره ووجوده، لكان من المنطقي أن يتلقى الباحث أو مرسل التساؤلات، رسالة اعتذار واضحة، وهذا ما لم يحدث مع من تجاهل الرد تمامًا.

في تجربة حقيقية قمت بتحديد يوم في الأسبوع لطرح سؤال على أصدقائي، ومرتادي صفحتي الخاصة على Facebook، وقمت بدور مدير الندوة أو الحوار، وكنت أحاول توليد الأفكار أثناء الحوار قدر المستطاع، وفي نهاية اليوم أقوم بتلخيص نتيجة المناقشة التي تستمر يومًا كاملاً، ومن خلال تجربتي لاحظت أن هذا النوع من الأنشطة مفيد جدًّا، وقد يكون بمثابة تدريب للأشخاص على خوض تجربة النقاش، وتبادل الآراء، ومع تكرار المناقشة بدا واضحًا أن هناك ضيوفًا يحرصون على الوجود، وإن فاتهم وقت المناقشة، فهم يسعون لتسجيل آرائهم في اليوم التالي، وكان هذا مؤشرًا على تَقَدُّم هؤلاء في النشاط؛ لهذا قمت بتطوير الفكرة، وجعلت من ضيوفي مقترِحِين للأسئلة أيضًا، وبالفعل وصلَتْني مقترحات من البعض، وإن كانت قليلة، ومن ملاحظاتي أن الضيوف كانوا يتحاورون مع مدير الندوة أكثر من تحاورهم مع بعضهم البعض، ويظهر أن تلك مرحلة متقدمة لم يصلوا إليها بعدُ، وقد كان الضيوف يعجبون عادة بخلاصة المناقشة التي توضِّح لهم كيف كانت آراؤهم مفيدة، خاصة بعد ترتيبها، وتنظيمها، وعزلها عن الأسماء والأشخاص.

وأُرْفِقُ لكم بعض النماذج حول الأسئلة التي طُرِحَتْ:
ما هي أفضل هدية تُقَدِّمُها لمريض تذهب لزيارته؟
أيهما تُفَضِّلُ: قراءة كتاب ورقي مطبوع، أم كتاب إلكتروني تقرؤه على الكمبيوتر، أو الحاسب اللوحي Tablet، أو أي جهاز إلكتروني آخر؟

إتقان الفتاة للطبخ ضرورة أم ميزة؟

أيهما تُفَضِّل للترويح عن نفسك: الذهاب للحدائق، أم التجول في المراكز التجارية الكبيرة؟

أيهما تُفَضِّل: حفلة عفوية تلقائية، أم حفلة منظَّمة ذات برنامج مُعَدٌّ مسبقًا؟

أيهما أنسب برأيك: الزواج في بيت مستقل، أم الزواج في بيت الأسرة؟

عندما ترغب في دعوة أصدقائك لتناول طعام الغداء أو العشاء، فأيهما تُفَضِّل: دعوة منزلية وتحضير مائدة مُعَدَّة بالمنزل، أم دعوة خارج البيت في أحد المطاعم أو الفنادق؟

ورغم بساطة الأسئلة أحيانًا، فقد كانت خلاصة المناقشة ممتازة.

الهدف من تلك التجربة هو تعزيز شعور الفرد بقيمته الذاتية، وبأهمية أفكاره وآرائه، وتعديل سلوك الشخص؛ بحيث يصبح أكثر قدرة على التفاعل، خاصةً مع استمارات البحث؛ فالبحوث، ومدى دقتها ومصداقيتها، وتعبيرها عن الواقع - هي الخطوة الأولى نحو تقدم المجتمع، وحصر مشكلاته وحلها، وعدم التفاعل مع مراكز البحوث والباحثين وجامعي البيانات يمثل مشكلة خطرة، وعقبة من عقبات النمو والتطور، ولا تزول تلك العقبة بغير نشر الوعي، ومحاولة تعديل السلوك قدر المستطاع، وإليكم أحد الأسئلة التي طُرِحت من خلال تجربتي مع خلاصة المناقشة كمثال على التجربة:
"الجمعة 27 سبتمبر 2013
اجتمعنا اليوم، وكان سؤالنا كالتالي:
أيهما تفضِّل: قراءة كتاب ورقي مطبوع، أم كتاب إلكتروني تقرؤه على الكمبيوتر أو الحاسب اللوحي Tablet أو أي جهاز إلكتروني آخر؟

ومن خلال المناقشة، توصلنا للتالي:
القراءة ضرورة سواء كان المقروء كتابًا ورقيًّا أو إلكترونيًّا.

البعض منا ذكر مُعوِّقات للقراءة أدت إلى ابتعاده عن ممارسة هذا النشاط عما كان عليه سابقًا، ومِنْ بَيْنِ ما ذُكِرَ تَغَيُّرُ ظروف الحياة، والانشغال، وفقدان الصبر، وطول البال.

انقسمنا من حيث التفضيلُ لفريقين:
الفريق الأول: مَالَ إلى تفضيل الكتاب الورقي، وتنوعت الأسباب التي بُني عليها تفضيله، ومنها:
سهولة حمله، والتنقل به.

إمكانية تدوين الملاحظات عليه.

إمكانية التوقف المفاجئ عن القراءة، ثم استكمالها فيما بعد.

الشعور النفسي بالكتاب، وهنا مال البعض إلى رائحة الورق القديم والشعور به، في حين مال البعض الآخر إلى الشعور الأقوى بالطباعة الحديثة، والورق الجديد.

مناسبة الكتاب المطبوع للمضامين التي تتميز بالدسامة، والتي تحتاج إلى تركيز.

الشعور النفسي بقيمة الكتاب المطبوع.

الميل إليه بحكم العادة، والتربية، ورؤية الأبوين وهما يمارسان عادة القراءة، وبين أيديهما كتاب ورقي عادي.

الفريق الثاني: فَضَّلَ الكتاب الإلكتروني، وكان الجهاز الأفضل هو التابليت، ومن بين أسباب التفضيل:
سهولة الحمل والانتقال.

إمكانية حل مشكلات الطباعة السيئة، أو الخط الصغير.

سهولة الحصول على الكتاب بدون تكلفة في الكثير من الأحيان.

تلافي مشكلة وزن الكتاب خاصة في المؤلفات الضخمة.

الحفاظ على موارد البيئة ونظافتها بتقليل كَمِّ الورق المُصَنَّعِ، والمستهلَك.

وقد انتقد الفريق الأول الكتاب الإلكتروني، وجاء من بين الانتقادات.

الآثار المترتبة على التعرض للشاشة، وإجهاده العينَ.

صعوبة التركيز، خاصةً مع المضامين الدسمة.

فقدان المتعة والشعور بالكتاب.

ولقد أشرنا خلال نقاشنا للعديد من الأمور الهامة، منها:
تساءلنا حول طبيعة القراءة، وهل هي هواية أم حاجة؟
نَوَّهْنا للدور الذي يجب أن يلعبه الآباء؛ لتحبيب أبنائهم في القراءة، وممارسة هذا السلوك أمامهم؛ ليكونوا قدوة حسنة.

ضرورة تعليم الجيل الجديد الطرق المثلى؛ للإفادة من التكنولوجيا، وألا تكون مقتصرة على الترفيه فقط، وأكدنا على أن القدوة، والمثل الحي على درجة عالية من الأهمية.

أشرنا إلى ضرورة التعرف على المزيد من مميزات القراءة الإلكترونية، وما تُوَفِّره الأجهزة الإلكترونية الحديثة من أدوات تساعد القارئ.

أخيرًا أشكركم لتفاعلكم، وانتظروا لقاءً جديدًا الجمعةَ المقبلة بمشيئة الرحمن.

بإمكان فرد واحد داخل كل أسرة أن يعيد التجربة، وأن يتحمل تلك المسؤولية في تعديل سلوك الأفراد المحيطين به؛ فالمجتمع لا يتغير بتغير القادة فقط، وإنما يلزمنا تغيير القاعدة، ونشر الوعي والثقافة بها.

النشر الأول على شبكة الألوكة
 http://www.alukah.net/Culture/0/62563/#ixzz2kWeHZ8eY

الاثنين، 11 نوفمبر 2013

تعلم أن تطلب ما تريد



تعلم أن تطلب ما تريد


دائمًا ما توصي كتب العلاقات بأن يتدرب كل طرف فيها على أن يطلب ما يريد من شريكه ببساطة، وليس من الضروري أن يطلب فقط ما يحتاجه بشكل حيوي وعاجل، وإنما هناك حاجات أشبه ما تكون رفاهية للشخص ولكن تحقيقها يضفي على أي علاقة بين اثنين جو من الدفء والود، الغريب أن من يستجيب لذلك النداء قليلين.
بالأمس كنت أتأمل قطي المدلل، لقد عانى منذ أشهر من تكتل الفراء بمنطقة الصدر نتيجة لانشغالي عنه، وإذ بي أواجه المشكلة وجه لوجه بشكل صريح ذات يوم، ما العمل؟ تنبهت بأن علي ما يجب أن افعله بانتظام حتى أخلصه من تلك التكتلات التي مزجت الفرو بالدهون الطبيعية التي يفرزها جلد القط، باشرت عملي بأن منحته حمامًا دافئًا، وجففت شعره جيدًا، ثم أعددت له أدواته وبدأنا العمل كل يوم، نقوم بتمشيط الفرو، نضيف بعض البودرة ونحاول التخلص من التكتلات، نقص ما أمكن منها، استمر العمل طيلة شهر كامل دون أن أمل أو اكل، أعلم أن النتائج لا تأتي سراعًا وإنما يلزمها الوقت، في النهاية فرحت لكون "بوبوس" قد تخلص من تلك التكتلات تمامًا.
لكن اللافت للنظر أن قطي المدلل رفض أن يتعرض للإهمال ثانية، فعندما أكون منشغلة عنه يأتي ليطلب حقه في الرعاية بشكل واضح، وكل مربي الحيوانات الأليفة يعلمون أن لكل حيوان طريقته الخاصة في التفاعل مع مربيه وطلب حاجاته منه، إذن أصبح القط واعيًا لضرورة مطالبته بحقه وإن كان يمثل له اليوم شيئًا من الرفاهية، إنه يسعى لينل الاهتمام والرعاية، وهذا ما يتوجب علينا أن نعيه، الفارق الذي سيميزنا في هذه الحالة هو أننا أكثر وعيًا بالأساليب الصحيحة للتعبير والطلب.
وعلى الجانب الآخر يفترض فيمن يتلقى هذا الطلب أن يتفهمه على نحو صحيح، الطلب لا يعني التقصير عادة، وإنما يعني مزيد من الاهتمام اللازم لبقاء العلاقة ليست فقط حية؛ وإنما دافئة.


نسمة السيد ممدوح
 11 نوفمبر 2013

اتبعني على Facebook