الأحد، 24 نوفمبر 2013

التربية.. فكر يتجدد

التربية

فكر يتجدد


سألتني صديقة ذات مرة: هل ستربين أبناءك على النهج نفسه الذي ربَّاك عليه والداكِ؟
فأجبتُها بكل صراحة: لا، أنا أؤمن بديناميكية التربية، وضرورة تطوير أساليب التربية من جيل لجيل؛ وهذا لا ينفي فضل الأبوين وجهدهما أبدًا، وإنما هو إثراء وتقدم للأمام، وقد كتبت مرة مقالاً بعنوان: "ديناميكية التربية" يشرح الفكرة مفصَّلة، وناقشت موضوع التربية في مقال آخر بعنوان: "ابنك مشروع لا ينتهي"، ولا تزال موضوعات التربية ذات أهمية بالنسبة لي، ولا أحب أن يُنْظر إليها نظرة جمود، وإن كان حديث هذه المرة سَيَلقى تحفظًا ربما شديدًا من الكبار؛ فأنا أقدم لهم تَفَهُّمي مقدمًا لمواقفهم، فليس من السهل أن تُغَيِّر فكرًا تبنيْتَهُ لسنوات طويلة، ولكني أقول بأن كل كلمة ستقرؤها هنا ليست نكرانًا ولا اعتراضًا، وإنما هي أفكار وليدة الملاحظة والمعايشة، ومُسْتَقْبِلو كلماتي هم في الأغلب من الأمهات والآباء من الشباب، فلنبدأ.

لماذا تزخر الكتب والمواقع بموضوعات التربية الخاصة بالطفل والمراهق فقط؟ أيمكن أن نعتبر هذا قصورًا واضحًا في فهم التربية ودور الوالدين؟ أم هي رؤية المجتمع لتلك المراحل العمرية، وكأنها الأهم، وما يليها ليس بحاجة لدراسة أو قراءة للقيام به على نحو جيد؟ في الواقع نجد أن الأسر تزخر بالمشكلات وتوتُّر العلاقات بين الآباء والأبناء في فترة الدراسة الجامعية وما بعدها، ثم تتفاقم مع زواج الأبناء ودخول أفراد جدد للأسرة، هذا يعني أن كَمَّ المعلومات المقدمة غير كافٍ، وأن تفسير القصور في النظرة هو في الأغلب التفسير الصحيح.

إن رعاية الأم والأب لطفل صغير لا تحتاج إلى حث أو لفت انتباه؛ وإنما تحتاج إلى معلومات وبرامج عملية تفيد في تلقين الطفل السلوكيات المناسبة، وأساليب للتقويم وحل المشكلات، ولا يحتاج الأب أن تُقَدَّم له نصيحة على نحو: "عليك أن توفر مالاً يكفي لغذاء طفلك أو علاجه"، ولا تحتاج الأم لنصيحة مشابهة لـ: "عليكِ بالصبر؛ فهو طفل رضيع لا حول له ولا قوة"؛ فكل تلك أمور فطرية لا حاجة لتَكرارها، ولكن تبدو هذه الملاحظات ضرورية في مراحل ومستويات أعلى.

إن الطفل الصغير تكون حاجاته واضحةً أمام الوالدين، فهو بحاجة للغذاء، والنظافة، والأمان، والحنان، والتعليم، والمتابعة، لا توجد مشكلة حقيقية في فهم حاجات الطفل في سنواته الأولى، حتى عندما يلتحق بالمدرسة فليست هناك ضرورة لأَن توجِّه الوالدين لمتابعة ابنهما في المدرسة، وتوفير ما يلزم لتلقيه التعليم الجيد، ربما المشكة تبرز عندما يصبح أكثر نضجًا، وعندما يبدأ في الاستقلال بنفسه، وتلبية حاجاته معتمدًا على ذاته.

فعندما يبلغ ابنك العشرين من عمره، يصبح منفصلاً جدًّا عنك، وتشكو الأُسر من التفكك عند بلوغ الأبناء تلك السن، هم لا يدركون سبب التفكك الطبيعي؛ لأنهم يظلون يعاملون أبناءهم كما كانوا يعاملونهم وهم صغار، والواقع أن نضوج الأبناء يعني استقلالاً حقيقيًّا عن الوالدين لا بد منه لتستمر الحياة، يستطيع الابن أن يحضر طعامه بمفرده، وأن يعتني بنفسه وبدراسته، وفي السنوات التالية سيلتحق بعمل ما، ويصبح قادرًا على أن يعول نفسه، ولكن تظل هناك حاجة واحدة للأبناء لا يملكها غير الوالدين، وهي الحاجة النفسية.

من الأفضل أن تهتم بتلك الحاجة من الطفولة، وأن تكون قادرًا على تلبيتها ما دمت حيًّا، فهي الضامن الوحيد لبقاء قلبك وقلب ابنك متلاصقين للأبد، وهذا خيار لك، أو دعْنا نقول: تلك هي أبوتك في المراحل المتقدمة، وتلك هي أمومتكِ في السنوات المتقدمة، وتلك هي الضامن لنيل الحب الحقيقي من الأبناء لا مجرد البر.

إن قضية بر الوالدين في الحقيقة معقدة وشائكة نوعًا ما، وفي اعتقادي:
البر من الواجب الذي يدفع إليه العقل ويضمن تحقيقه، أما الحب، فهو يختلف تمامًا، ونحن نسمع عن زوجات ترعين أزواجهن مع ضياع الحب، وتُخْلِصْن لهم من منطلق الواجب، ونرى أزواجًا ينفقون على زوجات ويحترمونهن مع غياب الحب؛ لأجل الواجب، ونرى أبناء يَبَرُّون آباءهم وإن كانوا قساة؛ فقط لأجل الواجب، ولو لم يكن البر واجبًا، لما حث عليه الله في كتابه العزيز، ولَمَا رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأنه؛ فهو واجب وإن لم يرافقه حب، وعلى الجهة الأخرى لم نجد في القرآن ما يحث الأب والأم على حب الابن، وإنما رأينا تحذيراتٍ ونواهيَ عن بعض العادات التي كانت سائدة قبل الإسلام، كوأد البنات، وقتل الأبناء خيفة الفقر، أما الآيات التي ذكرت النفقة على الأبناء ورعايتهم أو إرضاعهم، فجاءت لتنظيم أمور أخرى ليست في وضعها الطبيعي؛ كحالات الطلاق، وهذا يعني أنها ثابتة ومستقرة فيما دونها، وليست بحاجة لشرح وتفصيل.

ولكن بالنسبة لك كأب شاب وأنتِ كأم شابة:
هل يكفيكما البر؟ أم أنكما حقًّا بحاجة للحب؟ لا أتصور أحدًا يختار الإجابة الأولى إن كان يملك اختيار الثانية، ولنيل الثانية فهناك ثمن لا بد أن يسدد مسبقًا، وهناك وعي لا بد أن يكون موجودًا بداخلنا، إن الحب الفطري داخل الأب والأم هو حب غير مشروط، وهذا ما يجب أن نعيه بدقة، أنت تنجب طفلاً جديدًا للوجود، فيُشعِرك بذاتك وأهميتك، ويجعل لحياتك قيمة رغم المعاناة، وأنت تمنحه بحب، وعليك فقط أن تمنح وتأمل في نيل الحسن، لكن تذكر أن ما تمنحه في السنوات الصغيرة لا يدركه الطفل بشكل كافٍ؛ لأنه لا يزال صغيرًا، هو يحتاج منك أن تروي له ما فعلت، اروِ فقط، ولا تحاول تذكيره بأن لك فضلاً عليه، اترك له مهمة التقييم، وسيصل للنتيجة حتمًا، وعندما يَكبَر قدِّمْ له الحب صافيًا، قدِّمْ فقط ما تتأكد أنك قادر على تقديمه، والالتزام به طوال حياتك، اجعله لا يتلذذ بقيمة الحياة إلا بوجودك، عندها لن يقوم ببرك لأنه واجب عليه؛ وإنما سيعطيك ما هو أكثر من البر؛ إنه الحب الصادق.

إننا ننجب أطفالنا دون أن يختاروا هم ذلك، ونحن ننجبهم؛ لنشعر بالمتعة بوجودهم، ولو لم يكن الطفل بحياة الأبوين متعة ونعمة، لَمَا تمزق قلب من حُرم من الإنجاب، إننا ننجبهم لأنفسنا أولاً، ثم نبدأ بالعطاء، ورغم الألم والتعب والمعاناة، فإننا نسعد بهم، وهم يقدمون لنا أسباب وجودنا وقوتنا، ويمنحوننا من لمسات الحب البريء ما يُحَوِّل جفاف حياتنا وصحراءها إلى جنة جميلة، إننا ننجب أطفالنا، ولا نجبرهم على أن يضعوا بصمة أصابعهم الغارقة بالبحر على شيك "على بياض" لنطالبهم في شبابهم بكل ما نريد باعتباره دَينًا واجبَ السداد، إن اللجوء إلى تلك المبررات وقت الضعف والحاجة وقلة الحيلة هو أسوأ ما يمكن أن يقترفه الوالدان، حتى عندما تقع المشكلات، عندما تشعر أنك قد ارتكبت خطأ أدى لجرح شعور ابنك، فلا تتمسك بتلك المبررات، ولا تخدع نفسك بأنك أب، أو أنكِ أم، لكما صلاحية مطلقة، هذا في الحقيقة يجرح الأبوة ويمزق الأمومة، عندما يقل العطاء النفسي والعاطفي الممنوح من الأب أو الأم عن المعتاد دون سبب منطقي يدركه الابن، فإن شكواه من الفقدان أو الحرمان صادقة في تلك اللحظة، حتى وإن كان لك مبرراتك كأب، وأنت كأم، من الإجهاد النفسي؛ فالحقيقة أن تلك ليست غلطة الابن؛ إنه سوء تدبير لموارد العطاء لديكم من الأساس، وبدلاً من توجيه الصدمة للأبناء، أو لومهم على شعورهم، تداركوا الأزمة بالمزيد من الرعاية النفسية والحنان.

ربما لم تفكر يومًا أنَّ طلب المساعدة من ابنك هو نوع من التدليل لك، كثير من الآباء والأمهات يضعون مرارة الصبار في هذا العسل الصافي، إن كنت تثق بأنك قدمت لابنك بحب، فلمَ تَخَاف أن تطلب منه بحب؟ عندما تحتاج إليه قل له بشكل صريح: "أريدك يا بني"، عندما تشعر بحاجة للحب قل: "أحبك"، وستسمع ما هو أجمل، إن العطاء يجلب العطاء، والحب يجلب الحب.

وفي ختام تلك الكلمات لا يسعني إلا القول:
بأن البر واجب، ولكن البر الممزوج بالحب أجمل وأصدق وأبقى، التربية مهمة، والتربية النفسية أهم، تلبية الاحتياجات البيلوجية للطفل ضرورة، ولكن خَلْق الحاجة النفسية، وإشباعها في كل مراحل العمر، هو ضرورة أشد من ضرورة البقاء على قيد الحياة.

النشر الأول على شبكة الألوكة:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اتبعني على Facebook