الأربعاء، 28 مارس 2012

مهارة الخط

مهارة الخط 

إذا كانت لديك رواية ما وقد قرأتها وعمرك أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، ثم أعدت قراءتها وقد جاوزت العشرين فمؤكد ستقرؤها على نحو مختلف، وستدرك مالم تدركه من قبل، ولو أنك أعدت قراءة أحد الكتب أو المؤلفات التي درستها في الجامعة بعد أن مر على تخرجك منها عدة سنوات قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ، فمن المؤكد أيضًا أنك ستدهش من سرعة وكم استيعابك.
ولا ينطبق هذا التغير على المعارف والمعلومات فقط؛ وإنما يشمل أيضًا المهارات، فما مارسته وأنت طفل سيختلف تمامًا عما إذا ما مارسته في شبابك، ستشعر بتحسن في الأداء وسرعته، وستلمس نتائج أفضل، ومن بين المهارات مهارة الكتابة والخط، وهناك فارق كبير بين الكتابة والخط، فأنت عندما تكتب تركب الحروف والكلمات والجمل وليس مهمًا ما إذا كان رسم الحروف جميل، والمهم أن يكون التركييب صحيحًا، أما الخط فهو تحسين وتجميل للرموز المرسومة، بحيث لا تبدو أكثر وضوحًا فقط، وإنما تبدو أجمل أيضًا. وفي السنوات الأولى من حياة الطفل وعندما يلتحق بالمدرسة يكون التركيز منصبًا على الكتابة لا على الخط، والمطلوب من الطفل أن يحسن الكتابة بحيث يكون التركيب سليمًا والحروف مقروءة وهذا يكفي، وفي السنوات المتقدمة وبخاصة في السنتين الأخيرتين من المرحلة الابتدائية يبدأ الطفل في تعلم الخط، وللأسف يتجاوز الأطفال أو الكثير منهم هذه المرحلة وقد فصلوا تمامًا بين مادة الخط والخط كمهارة عامة لابد وأن يتعلموها ويتشربوها، ولهذا نجد الكثيرين ممن تخرجوا من الجامعة ولازال خطهم دون المستوى المطلوب.
إن ظاهرة سوء الخط تكاد تكون ظاهرة واسعة الانتشار لتعدد وتنوع أسبابها، فبعضها أسباب شخصية تتعلق بالشخص ذاته، ومنها مدى سلامة الحواس المسؤولة عن اتقان هذه المهارة، فالخط الحسن بحاجة لبصر جيد وعصب جيد وعقل جيد، وإن اختل واحد منهم أو وقع فيه القصور ساء الخط بالضرورة، ومنها أسباب خارجية تتعلق بالمعلم الذي يحاول تدريب الطلاب على تلك المهارة، ومنها ما يتعلق بوسائل تعليم هذه المهارة ومدى وضوحها، ومنها ما يتعلق بالأسلوب المتبع ومدى الاهتمام الذي توليه المدرسة والأسرة لهذا الأمر. وبالنسبة للطلاب الصغار الذين يتعلمون هذه المهارة فهم بحاجة لرعاية متكاملة، ومن الضروري أن تولي المدرسة مهارة الخط اهتمامًا متزايدًا ، ومن الأنشطة المساعدة في هذا المجال عقد مسابقة الخطاطين واختيار خطاط المدرسة، وتشجيع الطلاب على خط اللوحات بأنفسهم وتعليقها في المدرسة، وتشجيع المتميزين منهم على تدوين العبارات الهامة وأبيات الشعر بأنفسهم على جدران المدرسة تحت إشراف الأساتذة.
وعندما يتجاوز الشخص مرحلة التعليم في المدرسة يكون مطالبًا بالعودة مرة أخرى وبشكل شخصي لتعلم مهارة الخط واتقانها، والأمر ليس عسيرًا، فمع توسع مدى الإدراك يصبح الأمر أسهل بكثير، والمهم أن يدرك الشخص أن التعلم بحاجة لجهد، ولا يكفي أن تحضر نصًا قد كتب بخط حسن لتحاول تقليده حتى يتحسن اداؤك؛ ولكن عليك بمعاودة القراءة والتعلم حتى تتذكر أساسيات الخط، وتلك ستختصر لك الكثير من الوقت، وعن تجربة شخصية فقد غيرت من ملامح خطي خلال أسبوع واحد، حتى كأن المكتوب في نهاية الأسبوع قد خط بيد غير اليد التي عهدتها لسنين طويلة.
لا تستسلم للماضي، وطور من مهاراتك، ولا تحسب مهارة الخط مهارة فرعية، ولا تغرك التكنولوجيا والطباعة الإلكترونية، وتذكر أنك ستصبح أبًا أو تصبحين أمًا وبين أيديكما طفل تلقناه مباديء اللغة قراءة وكتابة وخطًا. 

نسمة السيد ممدوح
 28 مارس 2012

السبت، 10 مارس 2012

سنوات أربعة من عمري... حقائق وآراء - وسائل التربية والتعليم - موقع مجتمع وإصلاح - شبكة الألوكة

سنوات أربعة من عمري... حقائق وآراء

مُعظَم البشَر يُعانون في هذه الحياة، ومُعاناتُهم على صُوَر وأنماطٍ ودرجات مختَلِفة ومتفاوتة؛ بعضُهم يتشابه، وبعضهم يتقارب، وكلُّهم يُعانون، والقليل منهم قادرون على التَّعبير عن مُعاناتهم، وطَرْح مشكلاتهم، وهؤلاء هم الإيجابيُّون حقًّا، أو لِنَقُل: إنَّهم مَن يتوجَّب أن يتمسَّك بهم غيرُ القادرين على التَّحديد والتعبير؛ لِيَكونوا مُمثِّلين لمشكلاتهم، وفي هذه السُّطور وبعد مُرور عدَّة سنوات أجِدُ في نفسي الرَّغبة والقدرةَ على تصوير واقعٍ مليء بالمشكلات، واقع عايَشْتُه بنفسي لأربع سنوات، وإنِّي لواثِقةٌ أنَّ مَن ذاق مرارة تلك السنوات كثيرون غيري، ولعلَّ كلماتي يسوقها القدَرُ لِتَكون في مرمى أحد المسؤولين السَّابقين، أو بالأخصِّ مسؤول واحد راسلتُه منذ سبع سنوات تقريبًا، غير مُصرِّحة باسمي، وأجابني برسالة موجزة، طلَب منِّي مناشدة الأمَل، واستكمال الرَّجاء ووَصْله، وسألني أن أستبشر بالخَيْر، واضِعةً ثقتي فيه، لكن للأسف راحَتْ كلماتي وكلماتُه أدراج الرِّياح، وظلَّ الوضْعُ على ما كان عليه دون تَغْيير، واليوم لَم أَعُد أخشى أن يَعرف عنِّي الكثير، وليته يقرأ كلماتي، ولرُبَّما أرسلتها له أيضًا إن لم يتغيَّر عنوانُه البريدي.

الجامعة حلمُ المتفوِّقين دومًا من الطُّلاب، وأقول: المتفوقين منهم؛ لأنِّي أعني صورةً خاصَّة للجامعة، إنَّها الصورة التي يتمنَّاها كلُّ طالبِ علمٍ مُجدٍّ مجتهد، كل طالب حمَلَ مسؤوليَّته الدِّراسية راغبًا مُقدِّرًا محترمًا إيَّاها، إنَّها صورة الجامعة التي تحترم العلم، التي تفتح أبوابَها وأبواب خزائنها من الكتب لِطالبي العلم، دافعةً إيَّاهم صوب الاطِّلاع والتفكير والبحث والإبداع والإنتاج الحقيقي، جامعة تحترم طالبَ العلم.

وشأني شأن الكثيرين من الطُّلاب، تخرَّجتُ من الثانوية العامَّة بحصيلةٍ كبيرة من الدَّرجات، فتحَتْ لي باب الاختِيار على مصراعيه، ولظروفٍ اجتماعيَّة خاصَّة، ولأخطاء تسبَّب فيها صِغَرُ السِّن؛ التحَقْتُ بكليَّة الآداب، تلك الكُلِّية التي ظُلِمَتْ في مجتمعاتنا، وكان ظلمُها سببًا لتردِّي الأوضاع الثقافيَّة والفكرية فيها، فبالرغم من أنَّ كلية الآداب لا توصف بأنَّها إحدى كليات القمَّة؛ خلاف كلية الألسُن، أو العلوم السياسيَّة والاقتصاد -في نطاق الكُلِّيات النَّظرية- بالرَّغم من ذلك؛ فإنِّي أعدُّها حقًّا مظلومةً، شأنها شأن كلية التربية والحقوق، فالكليات الثَّلاث يُسْهِمن في بناء المجتمع من الناحية الإنسانيَّة والأخلاقية، فكلية الآداب هي للرَّاغبين في الاطِّلاع والبحث، وإثراء المكتبات بالبُحوث والمؤلَّفات القيِّمة، وهم مَن يُقدِّمون بحوثهم وخبراتهم لتطوير المَجالات المختلفة في المجتمع، ويُسْهِمون مع التربويِّين في وضع الكتُب والمناهج الدراسيَّة، والتربويُّون هم مُحترِفو الصِّناعة البشريَّة، أو هكذا يَجِب أن يكونوا، والمُحامون هم المُحافظون على القانون، السَّاعون لإظهار الحقِّ، ورَفْع الظُّلم عن المظلومين، لا المتكسِّبين والمنتفعين، ولا القابلين لشراء المال بضمائرهم، وللأسف يلتحق بالكليات الثلاث رغم أهميتهنَّ ضعافُ الطُّلاب، فكيف بطالبٍ لَم يُحقِّق مجموعًا عاليًا في الثانوية العامَّة أن يكون مؤهَّلاً للبحث والإنتاج الفكريِّ؟ أو كيف يكون مؤهَّلاً لتخريج جيلٍ جديد على يديه يُلقِّنه العلم والتربية معًا؟ أو كيف يكون محاميًا يَفْهم القانون ويصونه، ويحمل على عاتقه حمايةَ المظلوم وتَبْرئته ورَفْع الظُّلم عنه؟ كيف له أن يتحمَّل إحدى المسؤوليَّات الثلاث؟ وإن كانت الجامعةُ في رأيي للمتفوِّقين فقط، أمَّا من لم ينجح في إحراز ما يؤهِّله للجامعة، فله أن يفيد المُجتمَع من ناحيةٍ أخرى، وكلُّ مجتمع بحاجةٍ إلى مفكِّرين ومُخطِّطين ومخترعين وعلماء، وفي المقابل بحاجةٍ إلى فَنِّيين وصُنَّاع قادرين على تحويل النَّظريات المكتوبة والمخطَّطات الموضوعة إلى حقائق ملموسة، وليُعَدَّ كلٌّ بعنايةٍ لِيُصبح نافعًا في المجتمع.

على كلِّ حالٍ التحَقْت بكلية الآداب، وتحديدًا بقسم الإعلام، وطالعتُ صورًا مختلفةً من الأساتذة، قليل منهم مَن حاز على تقديري واحتِرامي بحق، وإن لَم أتنازَلْ عن حضور مُحاضرات الجميع بتركيزٍ ومُحاولة للإفادة قَدْر الإمكان، لكن الكارثة أن يَجْلس الطَّالب في قاعة المُحاضَرات ليستمع إلى مُحاضِر لا يثق فيه وفي قدراته، كيف لِمُحاضر أن يتلَعْثم أو يحفظ ما يقول ويردِّده ترديدًا؟ كان الغالبيَّة من المُحاضِرين فاشلين في فَرْض احترامِهم على الحاضرين، وكانت قاعاتُ المحاضرات تضجُّ بالفوضى والإزعاج، ومن الأساتذة مَن كان يتنازل عن مكانته لِيَهزأ بالحاضرين، ويتحدَّث بإسفافٍ لا يليق بأستاذٍ جامعي، ومنهم من كان يسبح في خيالاته وأحلامه طيلةَ وقت المحاضرة، ومنهم من كان يتحدَّث إلى نفسه فقط، ومنهم من كان يُسرع بالحديث حتَّى كاد اللِّحاق به أن يكون شاقًّا مرهقًا، ومنهم من كان يَجْمع الطلاب في قاعات صغيرة عمدًا؛ ليتحدَّث بدون ميكروفون إرضاءً لنفسه المريضة، ومنهم من كان يروي عن نَفْسه القصص والحكايات، وكأنَّه أمهَرُ الإعلاميِّين وأشهَرُهم، وهو يتلعثَم ويَخْلط الأمور حين يتحدَّث، ومنهم من كان نرجسيًّا يعشق ذاته، وكانت محاضرته تهليلاً وتصفيقًا سخيفًا مملاًّ، ومنهم من كان يفتتح مُحاضراته بالتَّشاؤم مهدِّدًا طلبتَه بالرُّسوب الحتميِّ، وقُلْ فيهم الكثيرَ والكثير.

وقُلْ عنهم بشكلٍ عام: إنَّهم حالِمُون خياليُّون، بعيدون عن أرض الواقع، يتحدَّثون دون أمثلةٍ حقيقيَّة تُقرِّب معانِيَهم وتوضِّحها، وقُلْ: إنَّهم لا يَبْذلون الجهد للإخلاص فيما يقومون به من أعمال، وإنَّهم سطحيُّون لا يرقَوْن لمنصب أَساتذة الجامعات، حتَّى إنَّني قطعتُ على نفسي عهدًا ذات مرَّة بعدم المشاركة، أو الإجابة في مُحاضراتِ أحَدِهم؛ إشفاقًا عليه من نَظْرة الطُّلاب، فبينما كنتُ أجيب وأنا واثقةٌ تمام الثِّقة من إجابتي، كان ينظر إليَّ نظرة المندهش، وما إن انتهيتُ حتَّى صمتَ لحظاتٍ ثم أعاد ما قلتُ بِتَلعثم، موقفٌ مذهل أثار شفَقتي عليه بحقٍّ، وآلَمنِي لأستاذٍ فقدَ هيبته أمام طُلاَّبه، وفي موقفٍ آخَر حصلتُ على تقديري في إحدى المواد علانيةً في قاعة المُحاضَرات، مؤكِّدة أنَّ الأستاذ الذي تولَّى تصحيح ورقة الامتِحان كان غائبًا عن الوعي، أو أنه غاب بإرادته، فمنحَني درجة المقبول على ورقة الامتحان؛ ليسألني أمام الطُّلاب وهو يمتدحني عن تقديري، متوقعًا أن يكون قد أصابَ في تصحيحه؛ لِيَجدني أقولها بثقة: "مقبول"! فيُدير وجهَه، ويَطْلب منِّي الجلوس، أليس هذا ردًّا قويًّا لاعتِباري وكرامتي التي أُهْدِرت على ورقة الامتِحان؟

وإن تحدَّثت عن مؤلَّفاتهم فأَطِل الحديث فمُعْظمها - إن لم يكن كلّها - فاشل، لا بناء ولا مَضْمون، ولا تَرابط ولا علاقة بعنوان الكتاب، بل إنِّي في مرَّة من المرَّات اكتشفتُ جريمة أحَدِهم العِلميَّة في تأليف كتابَيْن لمادَّتين مختلفتين، فقد وضعَ مؤلَّفًا واحدًا بِمُقدِّمة واحدة وبعددِ صفحات 500 صفحة، مع معلومات متناثرةٍ مُختلطة وأبواب وفصول مُتداخلة، ثم قسَّم المؤلَّفَ لقسمين 250 صفحة، ووضع على الأول المُرفق بالمقدِّمة عنوانَ إحدى المادتين، وعلى القسم الثاني عنوان المادَّة الأخرى، وأرفقَ بكِلَيْهما قائمةَ مصادر واحدة، وأنا واثقةٌ تمام الثقة في استِنْتاجي، فدائمًا كنت أتناول مؤلَّفه بشكلٍ خاص بإعادة التَّحرير، أحذف بعض المعلومات وأضيف الأخرى، وأعيد ترتيب الفصول والفقرات، وأربط هذا بذاك، وفي النِّهاية أَخْرج بِمُؤلَّف جديدٍ من صنع يدي، مُوجَز مرتَّب منسَّق، قابل للقراءة والاستِذْكار.

وفي مؤلَّفات البعض الآخر تجد الصَّفحة تبتدئ بكلامٍ مقطوع لا علاقة له بما قَبْله، ولا عنوان يقودك لشيء، وطباعة رديئة قد مُحِيَت في أغلبها وتقطَّعَت حروفُها، وفي مادَّة الترجمة كانت الأعاجيب تأتي تِباعًا.

وعن توزيع الموادِّ وإقرارها على الطُّلاب فصلٌ آخَر في المسرحيَّة الهزليَّة التي عايَشْتُها لسنوات أربع، فبما أنَّ قسم الإعلام قد جاء ضِمْن كلِّية الآداب فهو معنِيٌّ بالدِّراسة النظريَّة والبحثيَّة قبل العمَلِيَّة، ومع ذلك فالتَّطبيق العمَلِيُّ أمرٌ لا غنى عنه؛ لِتَدور عجَلةُ البحوث النظريَّة بشكلٍ سليم؛ إذْ كيف تَدْرس تطوُّرَ فنٍّ ما وأنت لا تَدْري عن أدائه شيئًا؟ وإلاَّ كنت كالواهم الذي يَتْرك لِخَياله العنان يَجول كما يشاء دون أن يَدْري كيف تُدار هذه العمَلِيَّة أو تلك؟ وكيف يُمكن اكتشاف عيوبها، أو اقتراح حلولٍ لِمُشكلاتها أو تطويرها، فكانت دراسَتُنا شيئًا كهذا نظريَّة مفكَّكة مُبعثَرة لا تَرابُطَ فيها، ولا أساس بُنِيَت عليه، فلم ندرس كيف تُدار البحوث، وتُعَدُّ على نَهْجٍ صحيح إلاَّ في السَّنة الثالثة والرابعة، وبالرغم من ذلك طُلِبَ منَّا كمٌّ كبير من البحوث في السنتين الأولى والثانية، وكُلِّفنا بدراسة السِّياسة والعلاقات الدوليَّة في السنتين الأولى والثانية رغم صغر السِّن، وكان الأَوْلَى أن يُدرَّسا في السنوات الأربعة على نحوٍ مُتدرِّج مدروس، ودرَسْنا التَّرجمة في السَّنوات الأربعة، وكانت فاشلةً بكلِّ المقاييس، لا نَهْج عِلميًّا، ولا رؤية واضحة، ودرَسْنا النَّظريات الإعلاميَّة في السنة الثانية، وكان أُستاذنا يفتَتِح مُحاضراته دومًا بما يَنْفي عنوانَ مؤلَّفِه ومادَّته؛ مؤكِّدًا على عدم وجود النَّظريات الإعلاميَّة من الأساس، ودرَسْنا التَّخطيط الإعلاميَّ رغم أهميَّتِه بشكلٍ سطحيٍّ سخيف في السَّنة الرابعة، ودرَسْنا الإنتاجَ؛ لكي لا نَعِيَ منه شيئًا، وكان مادَّة فارغةً صالحة لأنْ تضمَّ ما لَم يوجد له مسمًّى لديهم، هكذا كانت سنواتُنا الأربعة، خليطًا غير مُتجانِس من الموادِّ والكتب المقرَّر دراستها!

وللأسف لَم تكن السَّنة الأولى سنةَ إعداد حقيقي، ولم نقرأ فيها شيئًا عن مِيثاق الشَّرف الإعلامي، ولم نتشَبَّع بقِيَم الإعلام أو مبادئه الأساسيَّة، وجاءت دراستُنا سخيفة مُمِلَّة، درَسْنا أيضًا الدعاية والإعلام والإعلان والعلاقات العامَّة، وكان أستاذُ المادَّة يُردِّد ما في كتابه ترديدًا لفظيًّا، ولَم يكن كتابُه واضحًا أو مدعمًا بأيِّ نماذج توضح الفروقَ وتشرح المعاني، وكأنَّ الكتاب جاء من وحي الخيال لا علاقةَ له بالواقع، وكنَّا ندرس فنون التَّحرير بلا أمثلةٍ توضح الفروق بين كلِّ قالبِ تحرير وآخَر، وبين كلِّ مقدِّمة وأخرى، وفي إحدى المرَّات كُلِّفْنا بِتَغطية عشرة أحداث؛ لِنُدوِّن عليها عشرة أخبار، وذهبتُ لأستاذ المادة لأعرض عليه تطبيقي في السَّنة الأولى، فاعترَضَ على أسلوبي في أحَدِها، واصفًا إيَّاه بأنه أقرب لمقدِّمة مقال، ولَمْ يمنَحْني الفرصة لِمُناقشته، ولَم يمنح نفسه الفرصة لِيَعلم أنِّي كتبتُه للتَّجربة، ناحيةً منحَى خبَرٍ قرأتُه مؤخَّرًا في إحدى الصُّحف، وكانت البحوثُ على كَثرتِها لا تُقرأ ولا تُقيَّم، وكنَّا نُعِدُّها ونسلمها لا ندري أكُنَّا مخطئين أو مُصيبين فيها، وكُلِّفنا بإعداد بحثٍ ضخم في العلاقات الدوليَّة حول الغَزْو الأمريكيِّ للعراق، وما إنْ سَألَنا أستاذُنا في شيءٍ عنه حتى يقول: أريد كلامًا لَم يُنشَر من قبل، وكنَّا في السنة الثانية، وخبراتنا لا تزال محدودة، ولم يمدَّ هو يد العون لنا، وكُنَّا نبذل ما في وُسْعنا، وفي كلِّ يوم يَطْلب فيه تسليمَ البحث، كان يردُّ الجميعُ بلا مبالاةٍ مضيفًا فصلاً جديدًا للبحث، وكانت مؤلَّفات الأساتذة تَصْدر في أوقات متفاوتة، ومنها ما كان يَصْدر قبل موعد الامتِحان بأسبوع أو أسبوعين!

ودرَسْنا في تكنولوجيا الإعلام ما يُشْبه تاريخ التِّكنولوجيا الإعلاميَّة، ولم نُفِد من مادة الحاسب الآليِّ التي تقرَّرت علينا لثلاث سنواتٍ كاملة، وكنَّا نقرأ في كتب الصَّحافة عن النَّشر الإلكتروني، ولم نتعلَّم كيف ندير العمليَّة حقيقةً على (الكومبيوتر)، ولَم نُكلَّف بإعداد مصغَّرات تدريبيَّة، وإن حدَثَ قدِّمت ولم يُعلم عنها شيء.

وفي قسم الإذاعة لَم أمسك الميكروفون غير مرَّة واحدة؛ لأشرح لزملائي تصوُّري لإخراج مشهدٍ درامي كامل، مُحلِّلة لقطاته وزوايا الكاميرا فيه، وتأثيراتها اللاشعوريَّة على المشاهد، ولِي ذِكْرٌ لأستاذ مادَّة الإخراج لاحقًا، فكانت تجربةً من أجمل تجاربي في الجامعة، ولَم نُدرَّب على إمساك الميكروفون والتحدُّث فيه، وإن اكتَفى أستاذُ الإذاعة بالشَّرح النَّظَري فقط، ولم ندرس الكاميرا التلفزيونيَّة بشكلٍ جِدِّي، ولَم يَرِد ذِكْرُها إلاَّ في أقل القليل وعلى عجالة، لا تساوي قيمةَ الموضوع ولا تَرْقى إليه، ولَم ندرس برامج (المونتاج) مطلقًا، ولم نشاهد أجهزةَ المونتاج حقيقة، ولم نَزُرْ أستوديو حقيقيًّا إلاَّ في السَّنة الرابعة، وكان لأستاذ الإخراج الفَضْل في ذلك أيضًا.

والمَكْتبة هي فصل، مساحات ضيِّقة واستيعابٌ ضئيل، ونَوافذ مفتوحةٌ في الشِّتاء، وكتبٌ غير منظَّمة أو مرتَّبة على الأرفف، قديمةٌ بالية مهتَرِئة يُغطِّيها الغبار، مَقاعد من الخشب تُشبه كراسيَّ المقاهي الشعبيَّة، وكان للمكتبة في كلية الآداب جدول، ولكل سنَة وقِسْم يومٌ في الجدول، ولا يجوز أن يدخل طالبٌ في غير يومه المخصَّص، ولا علاقة للأساتذة بالموضوع، هم يُكلِّفونك بالبحث، وأنت افعل ما تشاء، وكان البقاء في المكتبة مقيَّدًا، فلا تتجاوز نِصْف السَّاعة، أو الساعة على الأكثر، وتكون مضطرًّا إلى الخروج رغمًا عنك!

والمُوظَّفون في الداخل لا يتَّصلون من قريبٍ أو بعيدٍ بِأُمَناء المكتبات، ولا يَدْرون شيئًا عن المُحتَوى الموجود بين أيديهم، ولا يحقُّ لك تصوير جزءٍ من الكتاب أو استِعارته، رغم أنَّ قوانين المكتبة تُتيح لطلبة السنة الثالثة والرابعة استعارةَ الكتب، وإن طلبْتَ تصويرَ جزءٍ من الكتاب، قيل لك: اترك ضمانًا، وصَوِّرْه خارج المكتبة، وفي إحدى المرَّات طلبَ مِن زميلة لنا ضمان من حلي ذهبِي، ولَم تَكْفِ البطاقة الشخصيَّة لذلك!

وفي المكتبة المركزيَّة للجامعة كان الطالب يُمنَع من الدُّخول بدفترٍ للكتابة، وأقصى ما يُمْكن أن تَدخل به بضعةُ أوراق وقلم! أيُّ فكر كان يَحْكم العمليَّة؟ لا أدري.

ورغم ما كان يشوب الصُّورة من مساوئ؛ لا يمكن أن أنسى بعضَ الأساتذة النَّادرين حقًّا، وكانوا قلَّة محدودة، بعضهم كان مميزًا في شَرْحه وليس في مؤلفه أو امتِحانه، وبعضهم كان مميزًا في الثَّلاثة، وإن كنتُ لا أنسى أستاذَ مادة الإخراج د. "خالد عبدالجواد"، وكان من أفضل الأساتذة وأقربهم إلى الواقع، ولم يكن مترفِّعًا مُتَعاليًا، كما لَم يكن حالِمًا خياليًّا، وأعترف أنِّي عشقتُ الإخراج حين درستُه على يديه، ثم صُدِمْت حين درسته مع غيره، ولا أنسى د. "محمود توفيق" أستاذ الجغرافية السياسيَّة، فكان من أكثر الأساتذة احترامًا، وكان يَفْرض هيبته على الحضور كافَّة، فلا تسمع في قاعات محاضراته همسًا، وكنَّا نُحاول فَهْم واستيعاب مادَّته رغم عُمْقها وصعوبتها ونحن في ذلك العمر، وأَذْكر أستاذًا رغم ضعف شخصيَّتِه، فإنَّه كان شديد التَّهذيب متعقِّلاً مُنصِفًا، وكان لي موقفٌ في مكتبه.

وأَذْكر أستاذًا قديرًا غزيرًا في علمه، رغم افتقاده لمهارات المُحاضِر، فإنَّ مؤلَّفاته كانت جِدِّية حقًّا، وساق لنا ذاتَ مرَّة امتحانًا لَم نَعِه ونُقدِّرْه إلاَّ بعد سنوات، حين نضجْنا أكثر، وتبيَّنَّا أنه كان هديَّة لِيَتجاوزه الجميعُ بتقديراتٍ مختلفة، فساقَ امتحانه سؤالاً واحدًا، كتبَ على رأس ورقته: "عَلِّق"، ثم ساق عدَّة قصص تَمسُّ الصَّحافة والصحفيِّين، وكنا نَدْرس مادة التشريعات الإعلاميَّة، وكان على كلٍّ منَّا أن يُظهِر مهارته في فَهْم الموضوع والتَّعليق عليه حسبما يرى، ولا أعتقد أنَّ هناك مَن رسب في امتِحانه غير مَن ترك صفحته بيضاء ناصعةً فقط.

قد مرَّت سنواتٌ على تخَرُّجي من كليَّة الآداب، وما زلت أذكُر مشاعري فيها، واضطِراري إلى الدَّرس والاستِذْكار بأسلوبٍ لا يتَناسب والجامعة، قد فرَضَه علينا أساتذتُنا ونظامُ الجامعةِ المختلُّ، وأذكر كيف كنتُ أجاهد لأجبر نَفْسي على الحضور لأساتذةٍ لا تُقنِعني شخصياتهم ومحاضراتهم، وأذكُر كيف كنت أحمل نفسي على الجِدِّ والاجتِهاد لأنتظر نتيجة العام في خوفٍ وتوقُّعٍ للظلم والاستِهْتار واللامبالاة التي شَمِلَت الأغلبية، وأذكر أيضًا كيف كنتُ أغرق وأغرق لأفيد قَدْر استِطاعتي، وكيف كنتُ أتمسَّك بالمفاتيح رغم صعوبة العُثور عليها لأفهم أكثرَ في مجال الإعلام، وكيف كنتُ أخوض التَّجربة تلو التجربة بِمُفردي، فقد خُضْتُ تجربة العمل الصحفيِّ على شبكة الإنترنت، وخضتُ تجربة الإنتاج الإذاعيِّ بِمُفردي، وشاركتُ مجموعتي صوريًّا في إنتاج فيلم وثاقي ونحن في السَّنة الرابعة، فقمتُ بدور المُخْرِج والمُصوِّر و(المونتيير)، وضعتُ فكرة الفيلم وأعددتُ (الإسكربت)، وجهَّزتُ (كاميرتي) الخاصة، وقمتُ بالتصوير بِنَفْسي، وقمت بِعَمَل (المونتاج) اللاَّزم للفيلم، وكتبتُ تعليقه، وألقَتْه زميلةٌ لنا، وقمتُ بعمل (المكساج) له، ورغم أنَّ العمل قُدِّم ولَم نعلَمْ عنه شيئًا بعد ذلك، فإنَّني قد درَّبتُ نفسي فيه قدر استطاعتي، ورفعتُ عن نفسي أيَّ شعورٍ بالتَّقصير والإهمال؛ لأترك البقيَّة المتبقية من المسؤوليَّة أمانةً مُلْقاة على كاهل الأستاذ الذي تَسلَّم ولم يُشاهد أو يُقيِّم، أو أنَّه شاهدَ دون اهتمامٍ أو شعور بالمسؤوليَّة والأمانة العِلميَّة.

وقد سطَّرتُ ما سطرت رسالةً لكلِّ مسؤول، ولكلِّ أستاذ: ابذل الجهدَ في الإخلاص، الأعمال النَّاقصة لا قيمة لها، وإن لم يَذْكُرك طُلاَّبك بالخير، فلا خيرَ فيك.

النشر الأول على شبكة الالوكة

 

الثلاثاء، 6 مارس 2012

نحو رؤية أوسع

نحو رؤية أوسع

من الجيد أن تتمتع بروح الأصالة، وأن تتعلق بكل عناصر قوميتك: دينك، لغتك، تاريخك، موطنك، إلا أن تطور هذا الشعور ليصبح بمثابة الجدار الذي يفصلك عن العالم، ويبقيك سجين قوميتك هو من أشد الأخطار، فمن الضروري أن تتمسك بلغتك وتاريخك، لكن عليك أن تسعى أيضًا لتكتسب المعرفة عن الشعوب الأخرى والحضارات التي سكنت الأرض سواء في العصور الماضية أو الحالية، أن تفكر بشكل منفرد وتنظر لنفسك منعزلاً عما حولك – إنها حتمًا رؤية يشوبها الكثير، وتفتقر للمنطقية والموضوعية.
وفي حين يمتلئ التاريخ بالحضارات التي عاشت وسكنت الأرض منذ سنين طويلة، نجد أن كل دولة تركز فقط على تلقين أبنائئها تاريخها، وكأنه هو التاريخ الوحيد لشعب أو حضارة سادت فيما مضى، وتذكر الحضارات الأخرى إذا استدعتها الضرورة لذلك، تذكرها مهمشة فتنقل لأبنائها خاصة في صغرهم اعتقادًا خاطئًا بأنهم كانوا مركز الاهتمام في العالم، وتحد من ادراكهم للواقع الفعلي في تلك العصور.
ويبدو أن من المستحيل تدريس تاريخ الحضارات جميعها لطلاب المدارس أو الجامعات، ومن الطبيعي أن يأتي التخصص ليوجد حلاً مرضيًا للمشكلة، إلا أن ترك النشء بدون خلفية عامة أو نقاط رئيسية وأسماء لحضارات وشعوب تمكنهم من تكوين صورة عامة لتاريخ البشرية، وتكون معينًا لهم على بداية رحلة البحث والقراءة في التاريخ، وفي أي تخصص شاؤوا هو أيضًا ضرورة ملحة، وليس المطلوب تضمين كل هذه المعلومات في الكتب الدراسية المقررة، ولكن المطلوب هو توفير النشرات والملخصات التاريخية الميسرة والتي تقدم ملخصات حقيقية لفترات تاريخية طويلة، ملخص لا يتعدي الخمسين صفحة يركز فقط على أهم الأحداث والأسماء والتواريخ مرتبة بشكل واضح، بعيدًا عن الحشو والإسهاب، تكون مفتاحًا تاريخيًا في يد مالكها، وبجانب تلك الملخصات هناك المحاضرات الثقافية والندوات التي لا يعرفها الطلاب في الدول العربية إلا في الجامعات على أمل أن تكون جيدة بما يكفي، فمن الضروري أن يرتبط النشء الجديد بالعلم والمعرفة ، وأن يعشق المعلومة ويسعى إليها.
وإن هذا الأمر الذي كثيرًا ما أصدره المعلمون والمعلمات، والآباء والأمهات - إنه من أسوأ الأوامر التي تجلب العناء، وأكثرها غموضًا، وأقلها فاعلية "اقرأ كي تعرف" فصغير السن لا يعرف من أين يبدأ؟ وعن ماذا يبحث؟ وأي كتاب يختار؟ وكيف يختار؟ وحتى الكبير منهم إذا أقبل على موضوع جديد لا يعرف عنه شيئًا كان من العسير عليه أن يبدأ، وتراه يتخبط يمينًا شمالاً حتى يهتدي لمصدر جيد يصبح بمثابة نقطة الانطلاق له، فما بالك بصغير السن؟
من أجل هذا كانت مسؤولية الكبار والمجتمع ومؤسساته تجاه النشء الجديد، وللأسف ما أن تقرأ الكلمات حتى يظن الآباء والأمهات أنهم بمنآى عنها، وأن لا التزامات عليهم تجاه أبنائهم، ولأجل هذا نقولها صريحة: ساعدوا أبناءكم واستقطعوا من أوقاتكم وجهودكم لتعدوا لهم ما لم تعده المدرسة أو مؤسسات التربية والتعليم في المجتمع، هذا دور لا يقل أهمية عن توفير المأكل والمشرب، إن غذاء الروح أهم وأثمن من غذاء الجسد، ابحثوا لهم وأعينوهم وتعلموا لتعلموهم، واقرؤوا لتفيدوهم، وقصوا عليهم ما سجلته ذاكرة التاريخ في الماضي، وليكن لكم لقاء ثقافي في كل أسبوع تمنحونهم فيه المعرفة مبسطة ميسرة، إن أبناءكم أمانة فأدوا لها حقها ولا تضيعوها.

نسمه السيد ممدوح
29 نوفمبر 2011

اتبعني على Facebook