الجمعة، 20 سبتمبر 2013

"عفوًا لقد نفذ رصيدك"!



 
 "عفوًا لقد نفذ رصيدك"!


عندما تقيم علاقة مع شخص ما فانت كمن يفتح حسابًا في بنكٍ جديد، وطالما كانت العلاقة مستمرة فأنت تودع بعض المبالغ المالية في هذا الحساب، وأنت قد تودع مبلغًا كبيرًا دفعة واحدة أو مبالغ صغيرة متتالية، والأفضل أن توازن بين الاثنين، على كل حال أنت تودع ولكن كيف؟
إن تحية الصباح أو الإبتسامة تعتبر مبلغًا صغيرًا يمكن إيداعه، كذلك الهدية والمجاملة والكلمة اللطيفة، المساعدة والمؤازرة والتحمل، مشاطرة الأفراح والأتراح، والأهم الالتزام، كلما كنت ملتزمًا كلما زاد رصيدك، والالتزام في الحقيقة ليس له حدود، فقد تلتزم بابتسامتك تجاه هذا الشخص، أو تلتزم بتذكر عيد ميلاده أو مشروبه المفضل أو حتى مقدار السكر الذي يفضله مع فنجان الشاي، وقد تلتزم في وعودك ومقابلاتك، وهكذا لا يمكن أن تبلغ حد النهاية في الالتزام.
وإذا كان كل ما سبق ليس إلا طرقًا للإدياع فماذا عن السحب؟ هل يمكنك فعلاً سحب بعض ما تودع؟ الحقيقة أنك بالفعل تودع مبالغ ثم تسحبها مرة أخرى لكن ليس بالضرورة أن تسحب باستمرار، والسحب طبيعي في أي علاقة ولكن الإسراف فيه هو الخطأ، حيث أن الإسراف قد يجعلك تواجه يومًا بهذه العبارة القاسية : "عفوًا لقد نفذ رصيدك" إذن كيف يتم السحب؟
عندما تقابل شخصًا ما وأنت في مزاج سيء فلا تهتم بتحيته بالشكل المعتاد أو اللائق فإن هذا يعتبر سحبًا من رصديك، وعندما تنسى تاريخ ميلاده أو تهنئته في العيد أو في أي مناسبة سعيدة فإن هذا الآخر يعد سحبًا، وعندما تخلف وعدًا أو موعدًا وإن كانت ظروفك حتمية ولك مبرراتك المقنعة فإن هذا يعد سحبًا، وهكذا تجد أن كل سلوك سلبي يعد سحبًا، وإذا أنت قد بالغت فيما تسحبه من حسابك فحتمًا سينفذ رصيدك، بعض الأشخاص يحب أن يمنح الآخرين فرصة للإستدانة وإعادة السداد فيما بعد، ولكن تلك الفرص محدودة وليست مطلقة، لهذا احذر أن تستخدم مميزات كتلك في علاقاتك بالآخرين.
هناك شكل آخر من أشكال التعامل التي تتم مع هذا الحساب لكنها تقع بين الإيداع والسحب، وهي علاقة تبادل، فأنت تحول بعضًا من حسابك للشخص الآخر، كيف؟ عندما تحتاج للدعم والتأييد والمساعدة فإنك تمنح طرف العلاقة الآخر بعضًا من حسابك نظير مساعدته له، في المقابل يقوم هو بتقديم المساعدة لك فيزيد من حسابه لديك، كأنه يحول لك مبلغًا من رصيدك عنده فيزداد رصيده عندك، وأنت أيضًا تزيد رصيده بما تدفعه نظير المساعدة، قد تبدو الصورة جافة عندما نحولها لما يشبه التعاملات البنكية، ولكن هذا هو التصور الأصدق، فعندما تعتذر لشريكك في أي علاقة عن أمر ما، أو موعد ما ، أو تسء إليه دون قصد أو تخاصمه لبعض الوقت مهما كانت أهدافك أو نواياك أو تقسو عليه فاعلم أن هذا سينتقص حتمًا من رصيدك لديه، فكن حذرًا ولا تسرف.
وتجنب أن تبلغ حد الإفلاس، والمؤشرات على ذلك عديدة منها أن تواجه بلا مبالاة من شريكك، وهذا يعني أنك قد اجتزت الخط الأحمر وأصبحت فعلاً مهدد بخطورة الإفلاس، والأسوأ أن تواجه بقسوة الإفلاس وتنتهي الفرص وتنقطع العلاقة مالم تسعى أنت لإصلاح ما أفسدت بإسرافك.

نسمة السيد ممدوح

20 سبتمبر 2013

  
رابط المقال على مجلة الابتسامة
http://ar.ibtesama.com/selfdev/1362.html

الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

أفكار منثورة

أفكار منثورة


تزخر المواقع والمجلات بالمقالات والموضوعات التي تهتم بالعلاقة الإنسانية وعلاقة الحب وكيفية تنميتها والعناية بها، ولكن للأسف دائمًا ما تصورها وتقصرها وتحصرها في علاقة الرجل بالمرأة، وكأنهم يتناسون أن المرأة والرجل في الحقيقة ليسا إلا بشر، وكأن العلاقات التي بحاجة لعناية واهتمام لا تربط سوى رجل بامرأة؟ فأين العلاقة الإنسانية على اتساعها؟ أين علاقة الصاحب بصاحبه والصديق بصديقه؟ اين علااقة المعلم بتلميذه؟ أين علاقة الأخ بأخته؟ أين علاقة الجار بجاره؟ ولا أقول لكم أين علاقة الأم بابنها والأب بابنه لأن تلك تناقش من جانب آخر رغم أهميته فهو يحصرها أيضًا ويحد منها، وكأن ما بينهما علاقة تربوية فقط.

أين الإنسان من الإنسان؟

العلاقة بين اثنين تحتاج لاهتمام وصيانة ورعاية.

العلاقة كالنبتة الجميلة إن لم تروها تذبل وتموت.

العلاقة هي مولود يجمع بين اثنين من بني الإنسانية، ينمو بينهما، ويربوا بعنايتهما وحبهما وحرصهما عليه، ويموت بإهمالها وجفائهما.

ربوا العلاقات فيما بينكم كما تربوا أبناءكم، فهي أبناء من طبيعة مختلفة.



قلت لشخصٍ ذات يوم: "لا تدع فرص الحياة تفلت من بين أصابعك، بعض الفرص لا تمنحها لنا الحياة سوى مرة واحدة" فأيد ما قلت وسألني: كيف أعرف أن هذه الفرصة لن تتكرر؟ هذه هي المشكلة، فنحن كثيرًا لا ننتبه للفرصة إلا وقد ذهبت.

حقيقةَ كان سؤاله هو الأهم، نحن أحيانًا نطلب ضامنًا لما لا يُضمن أبدًا، فما الضامن أن تلك الفرصة التي سنحت بها الأيام سوف تتكرر؟ وما الضامن أنها لن تتكرر؟ حقيقةُ لا يوجد ضامن، وما عليك أنت إلا أن تتعامل مع كل فرصة كأنها الفرصة الأخيرة وألا تجعلها تفلت من بين أصابعك.

وفي كتاب د. إبراهيم الفقي "المفاتيح العشرة للنجاح" كان يناقش أمرًا مشابه إذ كان يسأل عن الشيء إن حققته فماذا ستكسب؟ وإن لم تحققه فماذا ستخسر؟ وعلى هذا عندما تتح لك الفرصة لنيل شيء ما فاسأل نفسك هذين السؤالين: إن أنا اغتنمت الفرصة فماذا سأربح؟ وإن لم أغتنمها فماذا سأخسر؟ ربما كانت مكاسبك هي الأكثر فاقدم علهيا بشجاعة، وربما كانت مكاسبك أقل وخسارتك أكبر فهنا تريث ولا تتهور أو تندفع، ليس كل ما يتاح لنا طيبٌ مستساغٌ ومفيدٌ، وأنت إن كنت جائعًا قد يُعرض لك طعامٌ سامٌ أو ملوثٌ فهل ستأكله لأنك جائعٌ فقط؟!


 كن قويًا شجاعًا في كل أحوالك، ولكن احذر أن تحيد شجاعتك لتبلغ بك حد الوقاحة.

كن شجاعًا ولكن كن مهذبًا في الحب، في اللقاء، في الفراق، في الوداع، في الوعد، في الاعتذار وحتى في الخصام.

كن شجاعًا فكم أبغض الجبناء.

تذكرون كلمة نزار:

"إرمي أوراقكِ كاملةً..
وسأرضى عن أيِّ قرارِ..
قولي. إنفعلي. إنفجري
لا تقفي مثلَ المسمارِ..
لا يمكنُ أن أبقى أبداً
كالقشّةِ تحتَ الأمطارِ "

الشجاعة في كلمة صريحة مهذبة خير من صمت يحمل الغموض، وهروب لا يترك وراءه غير الحيرة واساءة الفهم والشحناء.

الشجاعة في اعتذار مهذب تجدد العلاقات وترمم ما انهدم تحت وطأة الغضب والثورة والانفعال، وهي أفضل من صمت منكسر أو تجاهل واستدراك للحياة.

الشجاعة في كلمة حب أجمل من حب مستتر يخشى النهار.

الشجاعة في كلمة وداع أجمل من ذبح الأرواح بقسوة الصمت وصدمة الغياب.

الشجاعة في طبع قبلة على جبين العزيز وقد فارقته الروح أجمل من خشية مرآه.

الشجاعة في رفع المسؤولية أجمل من الهروب وإيثار الكسل والراحة.

الشجاعة في الثناء على الجميل، وتبيين عيب يمكن إصلاحه، وتقويم ما اعوج، وزيادة الحسن في الحسن أجمل من الإنفرادية بالذات ، ورفع اليد، على أن يصاحب الكل تهذيب مع الشجاعة.

لأجل هذا كن شجاعًا سواء كنت رجل أو امرأة، كن شجاعًا مع نفسك ومع الآخرين.

وأخيرًا: كن شجاعًا فكم أبغض الجبناء.



الشيء واحد لا يتغير، حقيقة واحدة لها من أوجه الحسن والقبح، غير أني أنظر لمحاسنها بعمق، وأنت تنظر لقبحها بعمق، فتراني مغرقة بالتفاؤل وأراك قد أغرقت بالتشاؤم، وما نظرت لحسنها بقوة إلا لأقبل قبحها ولا أكرهه، فيرجع علي كرهًا فوق القبح فلا أطيقه، وأنت أسرفت في النظر للقبح فأنساك المحاسن.



سألني سائل بالفكر فقال: ما الحب؟ قلت: هو ضرب من الإيمان، هو تصديق القلب بأن قلب محبوبه هو الحاضن لسر سعادته، هو إخلاص لا يداخله رياء المصلحة أو التزين أو التزييف، هو عمل في القلب وبالقلب وللقلب، وهو قول حسن باللسان، وتعبير عن مكنون الفؤاد وإن ضاق فكان محصورًا في حروف قليلة، هو فعل بالحواس: نظرة وبسمة ولمسة، هو عمل كامل من التضحية والاكتفاء والسعادة، هو ضم النصف للنصف، هو مؤانسة الروح للروح، هو أمانة وعهد ومسؤولية، هو أخلاق وليس كل المحبين في زماننا على خلق الحب الأصيل.
نسمة السيد ممدوح 

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

اثنان، والبحر ثالثهما

اثنان، والبحر ثالثهما



على الرمل الأسيل ترامت زجاجتان فرغتا إلا من رسالتين.. مددت أناملي أتحسس نبض كل واحدة فإذا القلب يلامس قلبًا.. فعزمت أمري على أن أفض السر المخبوء فيهما، وأقبلت أتنسم عبق ما كتب في إحداهما، فقرأت:

"إلى الرفيق المجهول، ما عرفت لك عنوانًا أذيل به خطابي فأعطه لساعي البريد؛ فآثرت البحر عنه مرسالًا يطوف الأرجاء لعله يبلغك، فسألني عن وصفك فقلت: هو للقلب منية وللعين ضياء وللروح أنيس، هو الأمل والحب والحلم، وهو المستحيل.. هذا والسلام يا عمري، قد بلغك الحب والشوق للقلب البعيد المستور الاسم والعنوان والصورة"

قبلتها بنبل، وأدنيت الأخرى من قلبي، وقرأت على أسطرها:

"إلى الحبيبة حيث كانت، لكِ الشوق مكتسيًا بروحي، والحب ممزوجًا بدمعي، والوفاء مغروسًا بقلبي، أقرئك السلام وأناشدك الرحمة بفؤادي المنفطر من البعد، فتبيني وأخرجي من وراء الأيام ، فأنا مشتاق وبي لوعة لقلب خلق لألقاه ولم ألقه ليومي"

ضممت الرسالة لأختها وزدتهما بنورة، وجمعت الكل في زجاجة، فودعتها وأسلمتها للبحر وقلت: إلهي، اجمع بين قلبين أضناهما البعد.

نسمة السيد ممدوح
10 سبتمبر 2013

الاثنين، 9 سبتمبر 2013

ما بين المصارحة والعتاب



ما بين المصارحة والعتاب


علمتني الحياة أن هناك فارقًا بين العتاب والمصارحة، قد تستاء من أحدهم فتصارحه، وقد تستاء منه فتعاتبه.
المصارحة كشف لما بالنفس ليس إلا، إنه ما يمكن أن نسميه بالمكاشفة، ولا يهم في المصارحة أن يتقبل الطرف الآخر ما تقول أو أن ينفعل به، وليس المطلوب أن يعتذر لك عن اساءته أو أن يحاول تجنب مضايقتك في المستقبل، كل هذا مرهون بمدى علاقته بك وتقديره لك، أما العتاب فيختلف كثيرًا، ولا يكون إلا بين اثنين متحابين، لأنه مكاشفة العتاب تطلب التفهم والمراعاة والقبول لمشاعر الآخر، وتطلب من بعد الإرضاء وتضميد الخواطر وتطييب جروحها والإلتزام الذي مبعثه الحب بعدم تكرار ما حدث ولو لم يكن مقنعًا.

في المصارحة عقل يتحدث، وفي العتاب قلب يئن، لأجل هذا لن أعاتب من لن يبلغه صوت قلبي وإن كان أقرب قريب من ناحية العقل، فما دام لم يحنو بقلبه على قلبي فهو ليس أهلاً للعتاب.
 
صوت القلب أنين وبكاء، فإن سالت دموعه أمام عيني من حجر فدموعه نار تحرق، لا أمطار تغسل وتطهر.

نسمة السيد ممدوح
9 سبتمبر 2013

الخميس، 5 سبتمبر 2013

حامل القلم

حامل القلم


أصحاب القلم أحرار الفكر أم مقيَّدون بدواعي المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية؟ الأدب يساير المجتمع ويُرضيه أم يهذِّبه ويرتقي به؟ اللغة تقف عند مستوى قارئيها أم تأخذ بأيديهم لتُعينَهم على اعتلاء مستويات أفضل؟

تساؤلات عدة، وروافد تصبُّ في نهر رئيس، ألا وهو مسؤولية حامل القلم تجاه مجتمعه.

اختلف الأدباءُ والمفكرون والنقاد في وضع مفهوم للأدب، واختلف مفهوم الأدب في الشرق عنه في الغرب، وتدرج معنى كلمة "أدب" وتباين في كل عصر، وقديمًا لم تطلق العربُ على الشعر اسم الأدب، ولم يكن يعرف القدماء معنًى قريبًا من كلمة أدب غير كلمة مأدُبة، وهي الوليمة، ثم تغيَّر المفهوم فيما بعدُ ليقترب من معنى التهذيب؛ ثم تطور المفهوم في عهد خلفاء بني أمية وبني العباس، وأصبح يُطلَق على المعلِّم لفظ: "المؤدب"، وهكذا حتى وصل اللفظ لنا؛ ليدلَّ على المنتَج الفكري للأمة، والذي يتصف بصفات تميزه عن غيره؛ ولهذا قيل: إن عدَّة الأديب - صانع الأدب - هي موهبة أصيلة، ثقافة رفيعة، تفكير حصيف، حس مرهف، خيال مبدع، لغة سليمة، عبارة رشيقة، وأسلوب طلي، ومع تنوُّع التعريفات المقدمة للأدب نجد تعريفًا شاملاً يقول بأن الأدب هو ثمرة فن القول، أو فن التعبير بالكلمة الساحرة، وثمرة هذا الفن هي آثار شِعرية أو نثرية، تتميز بجمال الشكل، وتنطوي غالبًا على مضمون ذي بُعْدٍ إنساني يضفي عليها قيمة باقية.

وبينما قسم العرب الأدبَ لشعر ونثر، فقد قسمه الغربيون إلى أدب تخيلي؛ كالرواية والقصة والأقصوصة، وأدب لاتخيُّلي؛ كالمقال، ومع تطور التكنولوجيا اليوم، وسهولة النشر وقلة ضوابطه، وعدم خضوع كل ما يُنشَر للنقد، فقد أصبح الأدب منتجًا سهلَ الإنتاج والنشر، وفي المقابل أدت تلك السهولة لنقص ضمان الجودة، فبإمكان الجميع أن ينتج ما شاء، وأن ينشر ويقدم للمجتمع على اتساعه، لا تعوقه سوى بعض الضوابط والقيود التي يسهُل التغلُّب عليها؛ ولهذا نجد مئات المقالات والقصص المنشورة على شبكة الإنترنت، والتي يتفاوت كتَّابها بين مجيدين وغير مجيدين، وما بين مبدعين ومقلّدين، وتعددت المضامين، منها الصالح والطالح، ومنها الراقي المميز، والغث والسمين، ومع تغيُّر الأوضاع أصبح بالإمكان أن نطلق على تلك المنتجات بأنها إنتاج فكري وليس أدبيًّا؛ إذ يفتقد الكثير منها لأبسط خصائص الأدب ومميزاته، ألا وهي اللَّقْطة الجميلة والأسلوب الحسن.

وبدلاً من أن نناقش المسؤولية الاجتماعية للأدب، والتي تناولتها المؤلَّفات، وكتب عنها الكثيرون حتى احتدم بينهم النقاش، إلى أن خلصوا إلى أن الأدب معبِّر عن المجتمع، وأن العلاقة بين الأدب والأديب والمجتمع علاقة وثيقة؛ إذ إن الأديب يعيش في مجتمع يتأثر به، وينفعل ويتفاعل معه، ثم يضع منتجه الأدبي الذي يتلقاه المجتمع، فالصفة الاجتماعية لازمة ولا بد، وقد اختلفوا في وصفهم لتلك العلاقة؛ إذ كيف يصوِّرُ الأدبُ المجتمعَ؟ وهنا ظهرت اتجاهات ومذاهبُ عدة على مدى العصور، بدءًا من العصر اليوناني والروماني، وظهرت مسميات عدة؛ كالمثالية، والطبيعية، والرومانسية، والواقعية، وفيها يطول الحديث ويتشعب، ويتداخل ويتشابك، ولكن يهمنا منها الواقعية؛ إذ إنها تخوض في كيفية تصوير الأدب للمجتمع، حتى اعتقد البعض أن بإمكان الأدب أن يسجِّلَ تاريخ الأمم وتطورها، وعلى كل حال لا شك أن للأدب وظيفة مشابهة لتلك، على أن الذاتيةَ في الأدب أمرٌ لا جدال فيه، كون من يضع المنتج الأدبي هو إنسانًا، مهما احتاط في عمله وتحرَّى الموضوعية، فلن يبلُغَ تمامَها، شأنه في ذلك شأن الصحفي الذي ينقل خبرًا، فهو يتحرى الموضوعية قدر استطاعته، غير أن ذاتيته قد تؤثر في كمِّ المعلومات التي يحصِّلها في جانب دون آخر، أو تركيزه على خبر دون غيره، وهكذا، وذاتية الأديب في خياله وأسلوبه وقراءته للواقع، على كلٍّ نعود لنقول: إن بالإمكان أن نستبدل علاقة الأدب بالمجتمع بقولنا: علاقة حامل القلم بالمجتمع، وحامل القلم قد يكون مفكرًا، أو صحفيًّا، أو أديبًا؛ شاعرًا كان أو ناثرًا.

وتلك العلاقة على درجة كبيرة من الأهمية؛ إذ يؤثِّر حامل القلم في مجتمعه من ناحيتين: المضمون الذي يقدِّمه، والأسلوب الذي يكتب به، ومن حيث المضمون نجد أن مجالَه متَّسع باتساع الفكر الإنساني، ومتجدد ومتطور كتجدده وتطوره، غير أن انتقاء صاحب القلم لِما يكتُب هو أمر بالغ الأهمية، فليس المطلوبُ منه أن يركِّزَ على نماذج فردية فقط لا تتمثل في الواقع إلا بنسبة قليلة جدًّا، وأن يغرق في التشاؤم، فيرى النماذج الأسوأ في المجتمع، كمن يركِّزُ على نقطة سوداء فوق صفحة ناصعة البياض، وأن يغرق في التفاؤل فيرى فضائل المجتمع وحدها دون رذائله، كأنه يحيا في المدينة الفاضلة، وإنما واقعيته أن يوازنَ بين هذا وذاك، وأن يقدِّمَ للمجتمع ما يتبصَّرُ به ويتهذَّب.

وجانب الأسلوب واللغة المستخدمة هو على قدر كبير من الأهمية، ويمكننا أن نميِّز بين أسلوبين في التعبير عن معنى واحد، وهما: التعبير الفظُّ الصريح المنكشف، والتعبير العفيف المتستر بألفاظ الحياء والحشمة، وبعض الكتَّاب يسلكون الأسلوبَ الأول ظنًّا منهم أن هذا أقربُ للواقعية، وأدعى لوصول المعنى للقارئ بسهولة ويُسر، وفي سبيل ذلك يسوِّغون لأنفسهم استخدامَ ألفاظ العوام، بل وأحيانًا استخدامَ ألفاظٍ يتعفَّف عنها الناس، لا لشيء إلا لأنها موجودة بين أوساط وطبقات اجتماعية معينة، ومنهم مَن يميل للكتابة بالعامية على حساب الفصحى، كونها أيسرَ وأقربَ للواقع الذي يعايِشُه القرَّاء، ومنهم مَن لا يتعفَّفُ عن ذكر ألفاظٍ تخدشُ حياءَ القارئ العفيف، وتُرضي ذوي المِزاج الملتوي، وللأسف يُسهِم هؤلاء باتجاهِهم في الإمساك بيد المجتمع وجرِّه للرذيلة ولو اللفظيةَ، ولا يخفى على أحد ما للَّغة من دَورٍ في الحفاظ على المجتمع وأخلاقه ورقيِّه، حتى إنك ترى المتكلم فتحكُم على طبيعته وشخصيته من اثنين بداية، هما: مظهَرُه، ولغتُه، ثم تبحث في أمر فكرِه وثقافته فيما بعدُ.

وإن كان جبران خليل جبران قد ناقَش منذ سنوات طويلة مستقبَلَ العربية في مقال خاص، وميَّز فيه بين فئتين من صانعي الأدب، هم المبتكرون المبدعون، والمقلّدون - فماذا نقول نحن اليوم عن حاملي القلم في زماننا؟ بل ماذا نقول عن مستوى القراء الذين تدنَّى مستواهم اللغوي، لدرجة أن بعضهم لا يستوعب الفصحى، وبعضهم لا يُحسِن أن يفهَمَ أو أن يقرأ بما سُمِّي في بدايات القرن العشرين بلغة الصحافة، وهي صورة مبسطة من الفصحى، وتكاد تكون هي التي نكتب بها اليوم معاملاتنا وخطاباتنا الرسمية، بل إن منهم مَن يرتاح ويركَنُ إلى العامية، ومنهم مَن تحوَّل لكتابة العربية بالأحرف الإنجليزية، وهي ذاتها الدعوة التي لاقت رفضًا شديدًا في بداية القرن العشرين؛ لأن مفكري ذاك العصرِ قد وعَوْا جيدًا أن تنازُلَهم عن الأبجدية العربية هو بدايةُ تنازُلِهم عن لغتهم، ومن ثَمَّ قوميَّتهم، وهويتهم، وثقافتهم.

وقد ازداد الأمرُ سوءًا حين ظهرت ثقافة جديدة بدأت تنتشر وتلقى قَبولاً شديدًا، ألا وهي ثقافة القصاصات، فبعد أن كانت التكنولوجيا سببًا رئيسًا لمزاحمة الصورة للكلمة، باتت الكلمةُ وكأنها تُحتضَر اليومَ، فلم يعُدِ القارئُ يملِكُ مِن القدرة والرغبة والإرادة ما يكفيه ليقرأ مقالاً من نصف صفحة، أو صفحة، أو صفحتين، بل يكفيه بضعُ جُمَل لا بضعة أسطر، وهي ما نرى أن نسميه بالقصاصات، وتلك الجمل المحدودة العدد بإمكانها أن تقدِّمَ ثقافة ومعنًى راقيًا إنْ كتَبها أديبٌ بارع ذو فكر عميق، ولغة قوية، وأسلوب ناصع البيان، أما ما نراه اليوم فهو على غير ذلك.

فحريٌّ بمَن أمسك قلمًا اليوم أن يكتب واضعًا نُصْبَ عينيه المجتمعَ الذي يكتُب له، ذاكرًا العبء الثقيل الذي يحمِله على كاهله، مدركًا أن الكلمةَ قد تعلو بالأمم وقد تهبط بها، قد تلهب حماس أبنائِها، وقد تقتُلُ فيهم إنسانيتهم، يكتب فيمد يدَه للقارئ ليُعِينه على القراءة، يتدرج فيما يُقدِّم من القصير إلى الطويل، من السهل إلى الصعب، من الموجز إلى المفصَّل، حتى يتعلَّمَ قارئه منه، ولو لم تكُنْ أفكارًا، لكانت لغةً ومفرداتٍ وأسلوبَ فكر، لا ذريعة للوقت وعصر السرعة، فتلك أكذوبة، فحتى من بذل الجهد ليبلغ بنا عصر السرعة قد أمضى أشهرًا وسنوات طويلة قارئًا ودارسًا ومفكرًا ومجربًا ومخترعًا.

النشر الأول على شبكة الألوكة

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

الفارس والأميرة .. علاقة الرجل بالمرأة في العصر الحديث

الفارس والأميرة

علاقة الرجل بالمرأة في العصر الحديث


في الرموز والمسمَّيات القديمة والتي توارثتها الأجيالُ معانٍ لا بد وأن ننقِّب عنها، وألا نسلِّم بالرمز من الناحية الجمالية فقط، أو نظنه مبالغة، وإنما هي رموز وضَعها الأقدمون بفكرهم؛ لتكون اسمًا جامعًا لباقةٍ من الصفات، و"فارس الأحلام" من بينِ تلك المسمَّيات، فما أسماه الأقدمون بالفارس إلا لأنهم رأَوا المرأة تميلُ للفرسان، وهم لم يصنِّفوا ويحدِّدوا بدقة صفاتِ الفارس التي جذَبت المرأة، والتي إن وجدت بغيره استمالت قلبَها إليه، وقد نعزو ذلك لبساطة التفكير في العصور السابقة، وربما هم أبقوا على المسمَّى؛ لأن الفارس كان لا يزال حيًّا بينهم، فكان مثالاً يمكن للرجل أن يتعلمَ منه بطريقة مباشرة، ولكن اليوم لم يعُدْ هناك فرسان بالمعنى والصورة التي ورِثْناها من الأقدمين، فلم يعُدْ بيننا فارسُ السيف والدرع والفرس، ولكن بقيت لنا صفاتُ وأخلاقُ الفارس حيَّةً يحتذيها من يشاء.

والفارس قديمًا أو حديثًا ما هو إلا مجموعٌ لصفات حميدة، وإن كتبناها كمعادلة على نسَق المعادلات الكيميائية.

فيمكن أن نقول:


فإن غابت صورةُ الفارس التقليدية بقيت صفاتُه، فمن أين جاءت استحالة إيجاده في كل زمن وعصر؟!
إن كان مِن بين الرجال مَن هم أهلٌ لحمل صفات الفرسان، فمن حق البنات وقتَها أن يحلُمْنَ بالفرسان، وإن كان من حق البنات أن يحظَيْنَ بفرسان، فمن واجبِهن أن يكنَّ أميراتٍ بأخلاقهن، وما كانت روايات الطفولة والحكايات الموروثة إلا تجسيدًا لأخلاق الأميرة والفارس، ولكن أخَذها البعض على غير ذلك، وحملوها على غير محملِها، ويبدو أن متغيرات العصر الفكرية، والدعوات المتزايدة لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل، كانت سببًا رئيسًا في ذلك، وقد عمَّقت المشكلة وأوجدتها من قبلُ ولم يكُنْ للمشكلة وجود من قبلها، فما كان يضير المرأة أن تستشعر الضعف وتنشُدَ الأمن والحماية في رجل يصبح هو فارسَها، وما كان الرجلُ يميل للدناءة، فيلهو بالمرأة الضعيفة التي تنشُدُ فيه الرجولة، وما كان ليسخَرَ منها، بل كانت المرأة أنثى بطبيعتها وفطرتها ونقائها، وكان الرجل رجلاً بأخلاقه ورجولتِه التي لا يتنازلُ عنها.

وهذا لا يعني تحجيم المرأة في المجتمع، وإنما يعني أن تكتسب المرأةُ من العلم والمعرفة ما شاءت، على أن تنشأَ في بيتِها على أنها أنثى، ولقد كانت صيانةُ الفتاة في بيت والدها ومن ثم زوجها إعزازًا وإكبارًا لها، لا تقييدًا، وإنما ألبستها الدعوات ما شانها، وأبدلتها في عقول الفتيات؛ لتصبح تقييدًا وإهمالاً وإقصاءً عن المجتمع والمشاركة والإسهام فيه، وفكرُ المرأة حرٌّ ما دام لم يخرُجْ بفطرتها عما خُلِقَتْ له وخُلِق لها.

ويقول مصطفى صادق الرافعي عن ضعف المرأة كلامًا عذبًا، إن وَعَتْه النساء ما اسْتَأْنَ مِن صفات الضعف الفطرية فيهن، وإن وعاها الرجل ما استشعر رجولتَه بالاستعلاء على المرأة وتتبّع سُبُلَ ضعفها ليعلوَها، فيقول في مقال بعنوان "تربية لؤلؤية" في كتاب "وحي القلم ج1": "لم يخلُقِ اللهُ المرأةَ قوة عقل فتكون قوة إيجاب، ولكنه أبدعها قوة عاطفة لتكون قوة سلب؛ فهي بخصائصها، والرجلُ بخصائصه، والسلب بطبيعتِه متحجِّب صابر هادئ منتظر، ولكنه بذلك قانونٌ طبيعي تتمُّ به الطبيعة.

وينبغي أن يكون العلمُ قوةً لصفات المرأة لا ضعفًا، وزيادة لا نقصًا، فما يحتاج العالم إذا خرج صوتها في مشاكله أن يكون كصوت الرجل صيحة في معركة، بل تحتاج هذه المشاكلُ صوتًا رقيقًا مؤثرًا محبوبًا مجمعًا على طاعته، كصوت الأم في بيتها"، وما أراد الرافعي إلا أن يميز بين المرأة والرجل؛ فالقوةُ في أحدِهما تتمثل بصورة، وفي الآخَرِ بصورة أخرى، ولا تنتقص من قيمتِها في هذا أو ذاك، وهذا هو الاختلافُ المطلوب، ولن تكونَ أبدًا مساواة مطلَقة بين الرجل والمرأة؛ إذ هما في الأصل مختلفانِ، كمن يساوي بين الموز والتفاح، وما بينهما شَبَه إلا أنهما من الفاكهة؛ فحقوق المرأة تختلف عن حقوق الرجل، ولا يشتركانِ إلا في حقوق إنسانية عامة، أما المساواةُ بالمفهوم الذي انتشرت به اليوم فلم تجلِبْ للمرأة غير الشقاء، ولم تَجْنِ من ورائه غير فِقدان الرجل لرجولته؛ لأنها فقدت أنوثتَها، ونحن نرى أمثلة كثيرة كانت بمثابة الفاتورة التي أصبحت المرأة مطالبة بسدادها نظيرَ تلك المساواة المزعومة، ففي السابق كان يُقدِم الرجل على خدمة المرأة وإيثارها ولو لم تكن زوجةً له، فكانت تُقَدَّم عليه في الحقوق المشتركة، فإن وُجِدَ رجل وامرأة ومقعد واحد كان لها وليس له، وإن كان الزحام قدَّمها عليه، ونعرف في قصة موسى - عليه السلام - شهامتَه في السقاية للفتاتين، فكانت الشهامةُ صفةً يتوارثها الأبناء عن الآباء منذ القِدَم إلى أن علتِ الصَّيحات التي تطالب بحق المرأة، ومساواتها بالرجل، فماتت الشهامة أو الكثير منها، واليوم إن وُجِدَ رجُل وامرأة ومقعد واحد، كان مِن نصيب مَن سبق إليه، وإن كان الرجلَ، ولم يعُدْ يضير الرجل أن يسبق المرأة لمصلحة فينال ما يريد في دقائق، وتنتظر هي الساعات الطوال، ولم يعُدِ الشاب كفئًا لحمل الأعباء والمسؤولية؛ إذ المجتمع أوهمه أن عليه النصف فقط.

إن العلة لا تعالَجُ بالسلب، فلا نزيد المشكلة بأن ننزع من المرأة ما بقي من طبيعتها وفطرتها، بل نعالجها معالجة إيجاب، نعدِّل من أفكار أبنائنا وبناتنا، ونزرَعُ فيهم أخلاقَ الفارس والأميرة بلا مبالغة، والمبالغة أُسُّ البلاء، ولا بأس أن نضيف لموروثنا من حكايات الماضي ما يُناسِبُ عصرنا، ويحل مشكلاتنا الجديدة، على ألا نفقد أجمَلَ ما في الحكاية من مَيْلِ الرجل الفطري للمرأة، ومَيْلِها إليه، وصورة الرجل الفارس بأخلاقه، والمرأة الأميرة بأخلاقها، وليتحمل الرجل العبء، لا أقول: كله، بل معظمه؛ لأنه رجل، هكذا أمده الله سبحانه بأسبابِ القوة، ولم يجعَلِ اللهُ الرجالَ قوّامين على النِّساء إلا ليحملوا العبءَ الأكبر في الحياة، ولولا ما وهَبهم الله من قوة تحمُّل وتجلُّد لَما كان لهم شرَفُ القوامة، والقوامة ليست إذلالاً للمرأة، بل إعزازًا لها.

وأذكر سيدة قالت لي ذات يوم بأنها سعيدة بحياتها في مجتمع متحفِّظ بتقاليده، يُبقي المرأةَ كالملكة في بيتها، ورجال البيت جميعًا قائمون على مصالحها، وتلك هي الحرية؛ فحريةُ المرأة وحقوقها في الرعاية والإعزاز، لا في الخروج والكفاح كالرجال، وأُنهي مقالي وحديثي إليكم بذاك النصِّ المميَّز للرافعي إذ يقول: "لا حريةَ للمرأة في أمَّةٍ من الأمم، إلا إذا شعَر كلُّ رجُلٍ في هذه الأمة بكرامة كلِّ امرأة فيها؛ بحيث لو أهينت واحدةٌ، ثار الكلُّ فاستقادوا لها، كأن كراماتِ الرجالِ أجمعين قد أُهينَتْ في هذه الواحدة؛ يومَئذ تصبحُ المرأةُ حُرَّة، لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسةٌ بملايين من الرجالِ".

أبالحراسة والرعاية تُقيَّد حرية العقل والفكر والعاطفة؟! أم هي صيانة وأمان وإعزاز؟!

النشر الأول على شبكة الألوكة

اتبعني على Facebook