الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

إطلالات الماضي

إطلالات الماضي

لماذا تتدفق أفكاري كنهر فياض يتمرد على مجراه ويسعى لكل الإتجاهات؟! لماذا ينتابني الحنين لأقلامي وأوراقي في ذلك الوقت من كل عام؟ّ! أيمكن أن يقترن تاريخ ميلاد أجسامنا بميلاد أقلامنا وأفكارنا؟! لا أعرف اليوم غير الحنين الذي يغمرني للماضي، نحن دومًا نسابق الزمن مسرعين للأمام، غير أن لحظات التشبث بالماضي والحنين إلى كل ما كان فيه هي أقوى من قوة اندفاعنا، الماضي وشخوص الماضي، ما لهذا الحنين يعيدني لسنوات قريبة وأخرى بعيدة، ذكريات ألاطفها من عهد الطفولة البعيد.
في ليلة الأمس زارتني في حلمي معلمتي الأولى للصف الأول الابتدائي، أو لأقل عنها صدقًا أول من عرفت فيها معنى كلمة "معلمة" زارتني كما كانت لطيفة، ودودة، أنيقة، من الجميل أن تذكر يومًا أن أول معلمة حملت مسؤوليك داخل المدرسة قد أسبغت عليها في طفولتك البريئة معنى الأمان والأمومة خارج جدران المنزل، ربما من حسن حظي أن حظيت بمعلمة مثلها، لا أذكر في صغري أن المدرسة كانت موحشة يومًا، ولا أذكر معلمتي "سميرة" إلا بأنها كانت مثالاً لأفضل معلمة أطفال برقتها، وحنانها، وصبرها، وهدوئها، وانضباطها، وسلوكها المهذب الراقي، كانت حقًا جميلة وزادتها جمالاً سماتها الأرستقراطية الراقية، كم كانت رائعة زيارتك البارحة معلمتي الفاضلة.
في الماضي البعيد أصدقاء هم الآن أطياف جميلة في ذاكرتي، وفي سنواتي القريبة أصدقاء خابت فيهم الآمال فما زادوني غير أسى، من أعمق أحزاني وأشدها مرارة حزن على من أفسد الصداقة بارتدائه لردائها فما زادها غير قبح وما أكسبته غير إثم، لا توهم نفسك بصداقة شخص ما لأجل مصلحة تنالها بقربه، إن أحببته فقلها بصدق، وإن لم تدنو مشاعرك منه فالزم الصمت واطلب ما شئت، فستنال ما يسمح هو بمنحه للجميع راضيًا غير مستاء، فلا تحاول أن تطلب المزيد بكذبة تنسجها بلسانك ووجهك وابتسامتك الزائفة، فتنال ما تريد وقد كره صاحبه، ومنحك ما منحك ترفعًا منه ورثاء لنفس قد شوهت أجمل ما فيها غير مكرهة على ذلك، لا تحسب أنك بارع في الخداع والتصنع، لا تحسبه ساذجًا سهل إيهامه، المصلحة المباشرة أخف وطأة على النفس من المتسترة في ثوب ليس لها، وقد أدمت ذكرياتي نفوس كتلك.
الحب الذي يولد سريعًا يموت سريعًا، وعمره أقصر من زهرة صغيرة تفتحت اليوم لتموت بالغد، وقد خبرت مثل هذا الحب في قصره ودفئه العابر، وعايشت ما هو أجمل وألذ منه، في نهر ذكرياتي زورق يسبح منذ أكثر من عشر سنوات، ولا يزال يتمايل برفق ودلال، صديقة عمري، ورفيقة شبابي وأجمل أيام حياتي، وونيس أفكاري وأحلامي، والطرف الحيوي لنقاشاتي ، في الحياة فرص اللقاء بأناس مشابهين لك قليلة ونادرة، وفي حياتي لم تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة، ومن الحماقة أن تضيع الفرصة منها هباءً، لأجل هذا لم ولن نسمح بانقطاع الصلات رغم بعد المسافات، ورغم كل صعاب الحياة ستظل صديقتي حيةً نابضةً في أعماقي وفي واقعي.
والكثير من شخوص الماضي يتراءى أمام عيني، فمنهم من يلبث طويلاً فيحدثني كما كان يحدثني، ويحاورني ويناقشني، ومنهم من يمر مرورًا سريعًا لا يلقي فيه غير السلام، ومنهم من يمر كلمح البصر فلا ألتفت إليه ولا هو يشعر بوجودي، ومنهم من يقف بصمت يرقبني عن بعد، وبيننا فيض من التساؤلات والحيرة، فلا شيء يجمع بيننا، كما أن لا شيء باعد بيننا.
في الماضي أناس كثيرون، وأمكنة وأزمنة عديدة، وفيه أم حانية وأب كريم، وفيه ذكريات الأسرة الصغيرة ودفء الأخوة، وفيه نجاحات وإخفاقات ودموع وابتسامات، ورغم كل ما فيه فهو رائع دافئ، هو طريق قطعته على مهل وعلى عجل فبلغت ما بلغت اليوم، فنحن بناء الماضي وأساس المستقبل.

نسمة السيد ممدوح
11 ديسمبر 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اتبعني على Facebook