الأحد، 19 أبريل 2009

سماح والوجه الآخر للحياة

سماح والوجه الآخر للحياة
قصة واقعية

يقولون للحياة وجوه كثيرة، ونقول بأننا نرى من هذه الوجوه الكثير والكثير، نرى وجوهاً بيضاء مشرقه تفيض بالأمل، ونرى وجوهاً مسودة ،كئيبة،مظلمة، نقول بأننا نرى مَن في ترف الحياة يعيش، يتلذذ بالنعم والأموال، وبحدائق غناء على مرمى البصر، وبسيارات فارهة وقصور شامخة يزين حياته الفارغة، ونرى مَن على شفا الحياة يعيش، يوشك أن يسقط في الهاوية، بالكاد يجد قوت يومه، وهو في كثير من الحالات ناقم على الحياة من حوله، ينظر إلى شروق الشمس على انه بداية لعذاب جديد، أو انه موت لأمل بعيد قد بات من شدة الفقر كثوب مهترئ مهلهل تزدريه العين، وينظر إليه الناظر ويتعجب، كيف لهذا الثوب أن يصبح يوماً ثوب عيد جديد!

ولكن هل رأيت يوماً فقير يرى فقره جنة ينعم فيها بفتات بسيط؟
وأقول لك بقلم صادق بأني قد رأيت الوجه الآخر للحياة مع هذا الفقير ، ففي مكان ما من طور سيناء زرت بيتاً صغيراً بالكاد يقف بقلب مزرعة لا هي بالمزهرة ولا بالمثمرة، مزرعة لازلت في أوائل أطوارها، ووسط الأراضي الصفراء المخللة بالخضرة يقف ذلك البيت كعجوز يتشبث بعصاه ويرتكن إليها علَّها تقيه من السقوط على الرمال الملتهبة تحت آشعة الشمس، ومع اشتداد الريح في الخارج ، ومع تطاير الرمال، كان البيت مفتوح الباب ، تهتز نوافده مع هبات الرياح، وفي وسط اللوحة الثائرة كان بداخل البيت امرأة وطفلان، كان الفقر واضحاً في مظهر أهل الدار ، ملابس بسيطة، وأقدام حفاه، ومشبك شعر قديم يزين شعر الطفلة سماح، ومع بساطة الدار كانت الأسرة تعيش في سعادة حرم منها سادة الديار ، كان المنزل صغيراً جداً ، فقط غرفتان ، وكان الأب غائباً في عملة، والأم تنتظره بحب وتعد لقدومه ما تطله يداها بحنان، والطفلان يلعبان بكرة زجاجية صغيرة ، فتارة يلقيها الأخ لأخته، وتارة تلقيها سماح، وتارة أخرى تهرب الكرة لتختفي في ركن الحجرة أسفل الفراش فيركض وراءها الطفل ــ في ملعب صغير لا يقبل به ابن العمدة ولا ابن السلطان ــ ويتتبع أثرها حتى يشرق وجهه بابتسامة بريئة تزيين ثغره وهو ممسك بها كأنها الكنز الذي تلقاه بعد طول مشاق.
وبحب الحياة تنظر الأم إلي وتبتسم وتروي عن زوجها القصص والروايات وكأنه الفارس الذي تحلم به الأميرة الحسناء، وتصف الحب الفياض الذي يسري كنهر عذب بين قلبين جمعهما ذاك البيت الصغير وضم بينهما طفلان، وبالكرم الحاتمي البسيط تقدم لي ما طالته يداها: كوب من الشاي وبرتقاله أكاد أقول بأنها أغلى ما لديها، فالترحاب والبساطة الممزوجة بالسعادة تشف عن فرحتها بتقديم أنفس ما لديها من مأكل وشراب، وتنظر إلى سماح وتروي لي، تحدثني عن الأب الكادح ، وتقول بفرحة طفل ملك الدنيا بيديه وباتت أحلامه حقيقه، تحدثني عن مشبك شعر بسيط اشتراها لها والدها وتحمله على أصبعيها وتريني إياه، ياله من مشبك صغير وبسيط! إننا لا نكاد نعره اهتماماً بل لا ننظر إليه، وهو في تلك اللحظة سر سعادة عميقة وشعوراً بالغنى الفقير.
ويتفاخرون بالجاه والأموال وذاك الطفل يفخر بجده العجوز البسيط ويقول " جدي حداه بجره كبير ( جدي يملك بقرة كبيرة ) " هذا هو سر غنى الجد الفقير، مجرد بقرة كبيرة تمنحه قوت يومه، وتحرث له الأرض، وقد تدير له الساقية إن امتلك ذاك الفقير ساقية، وإذا ما انتشل الموت بقرة الجد فيالها من كارثة، كنز الجد مرهون ببقرة إن تنفست الهواء اليوم فقد لا تدركه غداً، والطفل مع ذلك سعيد بجده يفخر به.
تملكني شعورغريب يوم رأيت ذاك البيت وتلك الأسرة الصغيرة ، زوج وزوجة وطفلان يحيون بعيداً عن المدنية، لا تسمع بينهم صوت مذياع ولا تلفاز، ولا تجد صحيفة هنا أو هناك، بل أثاث بسيط وفرن قديم خارج البيت تصنع عليه الأم كل صباح قوتها وقوت أبنائها من الخبز.
هذا هو الوجه الآخر للحياة، ذاك الوجه الذي لا نراه ولا يبلغه خيالنا، أناس إذا ما نزلوا المدينة وعايشوا أهلها فقد يصدمون، أناس سعداء بحياتهم ، فقراء لا يدركون فقرهم، يشعرون بأنهم أغنياء فهم لم يروا من هم الأغنياء حقاً، هم أعنياء بعواطفهم ومشاعرهم وترابطهم ، ونحن منهم فقراء، نشكوا مسكناً ضيقاً ونريد حياة أفضل، نملك المال ونريد ما هو أكثر ، يلهو أطفالنا بالدمى والعرائس ويبكون ويطالبون بألعاب أفضل.
نعم نحن فقراء بمشاعرنا وبالغيوم التي تلبد سماء نفوسنا وهم بفقرهم للمال أغنياء، هذاهو الوجه الآخر للحياة ، وهذه هي سماح الفتاة الفقيرة الحالمة، المرحة، الباسمة.


نسمه
4 فبراير 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اتبعني على Facebook